مجرد رأي…لماذا يفرح موظف البترول بخروجه للمعاش؟

في ممرات شركات بترول، وتحت أضواء المكاتب المرهقة، كانت السنوات تمر بثقل، وتُنسج أعمار الموظفين بين مكالمات عاجلة، وتقارير لا تنتهي، وحقول لا تهدأ، وكأن الزمن نفسه يستنزف قطرة قطرة مثلما يستنزف حقل البترول من باطن الأرض.
لكن ثمّة مشهد متكرر يلفت الانتباه في السنوات الأخيرة: موظف يقف في حفل التكريم، يبتسم بصدق، ويودع بزهو، بل ويقولها علناً: أنا سعيد بخروجي للمعاش، لقد آن الأوان أن أستريح.
هنا تتباعد الدهشة، وتبدأ الأسئلة: لماذا أصبح المعاش في زمننا حلمًا يبتغيه الموظف، بعدما كان في الماضي كابوسًا يخشاه؟
لم يعد العمل في البترول كما كان. صحيح أنه كان دومًا قطاعًا صعبًا وميزة للجميع ، لكن الموازين اختلت، وضغوط اليوم تجاوزت حدود المعقول، ولم تعد المسألة مجرد عمل روتيني أو مسؤوليات بل صارت حياة الموظف أسيرة هواتف لا تصمت، ومهام تتراكم كأمواج البحر، وخطط لا ترحم ولا تنفذ ، وأحيانًا ضغوط تنسى أن للإنسان طاقة ومشاعر.
الموظفون الآن ليلهم هو امتدادًا للنهار، والإجازة صارت مُلاحقة بمكالمات العمل، والبيت تحوّل إلى فرع جانبي من المكتب، ومع هذا الإيقاع المتعب، أصبحت سنوات الخدمة عبئًا نفسيًا، ينتظر كل واحد الخلاص منه بيوم النهاية.
لماذا كان المعاش في زمان مضى موجع ؟، لأن نظرة الموظف إلى المعاش كانت تحمل طيفًا من الحزن من فقدان المنصب وانقطاع الراتب وانتهاء الصلة اليومية برفاق الدرب والزملاء ، كلها كانت تعني بداية العزلة، في زمن كان العمل فيه مرادفًا للهوية، والمعاش علامة على النهاية، بل كان البعض يمرض بعد التقاعد، لا لأن الجسد ضعف، بل لأن الروح فقدت صخبها المعتاد، كان الموظف يلبس بدلته صباحًا ليرى ذاته ويرى احترام الناس له، أما اليوم فقد غيّرت التجربة والواقع تلك المعادلة.
تغير كل شيء ، ربما لأن العالم تغير ، وربما لأن الموظف اليوم خرج من عباءة “الوظيفة هي الحياة”، وصار يرى فيها محطة لا نهاية الكون، وربما لأن الموظف في البترول، أنهكه التحدي الدائم، وتغير المسئولين ، وجفاء البعض ممن لا يعرفون أن هذا الإنسان خدم لثلاثين أو أربعين عامًا بعرق ودم ووقت مسروق من عائلته. فحين يحين موعد المعاش، لا يشعر أنه فقد شيئًا، بل يشعر أنه استرد نفسه.
الناس الآن لا يرون المعاش نهاية، بل بداية حياة جديدة، حياةً أكثر حرية وهدوء ، وربما إنتاجًا حقيقيًا بمعنى آخر، إنه الوقت الذي يصبح فيه الإنسان حرًا من الجداول والقيود، ويختار أن يعيش كما يريد، لا كما يُطلب منه.
ولذلك يبتسم كثير من موظفي البترول اليوم. لا لأنهم تخلوا عن ذكرياتهم، بل لأنهم أخيرًا تخلّصوا من أثقال لم تلقى تقديراً من أحد كما ينبغي، وآن لهم أن يرتاحوا وأن يعيشوا لأنفسهم لا للإنتاج.
ليتنا نحترمهم قبل أن يغادروا، ونسمع لصمتهم قبل أن يرحلوا، ونعرف أن من يفرح بالخروج، لم يكن فرحاً بالخلاص من المهنة، بل بالخلاص من التعب وأحيانً مو الظلم والجحود وعدم التقدير كما ينبغي .