أيمن حسين يكتب: أنا هنا معكم..كارلوس غصن

المدير الحقيقي هو من يحوّل الأزمة إلى فرصة، واليأس إلى طاقة، والانكسار إلى بداية جديدة. دائمًا نكتشف أن هناك بُعدًا إنسانيًا عميقًا في كل قصة نجاح؛ فالمؤسسات لا تنهض بالجداول والخطط وحدها، بل تنهض بمن يعملون بها، وبالقائد الذي يعرف كيف يوقظ فيهم الإيمان بأن الغد يمكن أن يكون أفضل. الإدارة ليست فقط إدارة أرقام، بل هي إدارة قلوب وعقول وهمم، وكيف تستطيع تحريك الطاقة الكامنة في البشر ليعطوا ما لم يظنوا يومًا أنهم قادرون على إعطائه.
لحظات فارقة لا تحدد فقط مصير الشركات، بل تعيد كتابة دروس كاملة وعميقة عن القيادة والإدارة. لحظات ربما تضع القائد أو المدير أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن ينهار مع المؤسسة التي يديرها، أو أن يقفز بها فوق الهاوية وينقذها من السقوط.
واحدة من أشهر هذه اللحظات كانت في أواخر التسعينيات، حين كانت شركة نيسان اليابانية – وهي واحدة من أقدم وأشهر شركات السيارات في العالم – على وشك إعلان الإفلاس. الديون تجاوزت 20 مليار دولار، المنتجات لم تعد تحقق مبيعات، والثقة بين العملاء والمستثمرين تكاد تكون معدومة. بدا للجميع وكأن العملاق الياباني سيسقط إلى الأبد وبدون رجعة.
وفجأة ظهر اسم رجل أعتقد شخصيًا أنه سيُخلّد في كتب الإدارة، وهو العبقري: كارلوس غصن.
وُلد كارلوس غصن في البرازيل لعائلة لبنانية، وتربى في فرنسا، وتشكلت شخصيته بين ثقافات مختلفة. وأظن أن هذا المزيج هو ما جعله قادرًا على أن يكون “مختلف التفكير”. استطاع أن يفهم اليابانيين بهدوئهم وصبرهم، ويتعامل مع الغربيين بجرأتهم وسرعتهم.
حين جاء كارلوس إلى نيسان سنة 1999، لم يكن أحد يتوقع أن هذا الرجل “الأجنبي” الغريب عن البلد بثقافتها الخاصة جدًا سيغير وجه الشركة تمامًا. اليابان دولة شديدة الاختلاف في كل شيء، والثقافة الإدارية فيها مغلقة ومتحفظة. فكيف لرجل لا يتحدث اليابانية أن يفرض قرارات مصيرية كتلك؟
غصن لم يضيع وقتًا. فسريعًا أعلن خطة إصلاحية صادمة: إغلاق خمسة مصانع، تسريح آلاف الموظفين، وإعادة هيكلة كاملة للإدارة. قرارات تثير الغضب والاستياء، لكنها كانت أشبه بعملية جراحية دقيقة لإنقاذ مريض يحتضر.
لكن في اعتقادي أن الجانب الأهم هنا لم يكن الأرقام. غصن كان يعلم أن الأرقام قابلة للإصلاح مع الوقت، لكن الثقة إذا ضاعت يصعب – بل قد يستحيل – استعادتها. لذلك قرر أن يعيش بين موظفيه: يزور المصانع بنفسه، يقف مع المهندسين في خطوط الإنتاج، يسأل العمال عن مشاكلهم. حاول أن يكون سندًا حقيقيًا للجميع داخل الشركة. لم يكن مديرًا يجلس في مكتبه المكيف، بل قائدًا ينزل إلى الميدان يساند ويساعد بنفسه.
بعد سنوات قليلة فقط، انقلبت المعادلة تمامًا. تحولت نيسان من شركة غارقة في الديون إلى واحدة من أكثر الشركات تحقيقًا للأرباح في العالم. وكأن العملية الدقيقة قد نجحت، وعاد المريض إلى الحياة من جديد. وهنا أصبح كارلوس غصن في نظر اليابانيين “ساموراي الإدارة”.
ولم تكن قصة غصن مع نيسان فحسب. فقبلها بسنوات، تولى إدارة رينو الفرنسية، التي كانت تمر بمرحلة ضعف وتراجع أيضًا. واستطاع أن يعيد هيكلتها، ويخفض التكاليف، ويعيد إليها قدرتها التنافسية في السوق الأوروبية. وربما كان النجاح الذي حققه هناك هو السبب في أن تُغامر رينو بترشيحه لإنقاذ نيسان فيما بعد. وهكذا جمع الرجل بين إنقاذ شركتين كبيرتين في قارتين مختلفتين، وصار رمزًا للقائد الذي لا يعرف المستحيل.
لا تُروى هذه القصص لمجرد السرد أو التسلية، وإنما لكونها مليئة بالدروس الملهمة. فالأزمة تكشف القادة الحقيقيين: في وقت الرخاء، كل شيء يبدو سهلاً ويتشابه الجميع، لكن القائد يُختبر حين تنهار الجدران من حوله، وحين يوشك كل شيء على السقوط.
نتعلم أن الثقة هي رأس المال الحقيقي؛ فأكبر قرار اتخذه غصن لم يكن إغلاق مصنع أو تسريح موظف، بل استعادة ثقة الناس وجعلهم يؤمنون بأن نيسان يمكن أن تنجح من جديد.
ندرك أيضًا أن في التنوع قوة؛ جذوره المتنوعة وثقافاته المتعددة واطلاعه الواسع جعله يرى ما لا يراه الآخرون.
ونتعلم من هذه التجربة أن القائد الحقيقي لا يختبئ؛ غصن لم يختبئ خلف التقارير في مكتبه، بل وقف في قلب خطوط الإنتاج وبين العمال والمهندسين والفنيين ليقول: “أنا هنا معكم.”
حين نقرأ قصة كارلوس غصن، ندرك أن الإدارة ليست جداول وموازنات، بل هي قدرة على صناعة الأمل وسط العاصفة. هي فن أن تعطي من حولك سببًا ليؤمنوا بأن الغد أفضل. هي القدرة على تغيير القناعات بأننا نستطيع أن نقف مرة أخرى وننجح مرة أخرى ونصل إلى مكان أفضل مما كنا عليه، حتى لو كانت كل المؤشرات تقول العكس.
وهنا يكمن الدرس الأعمق: أن المدير قد يُقاس بإنجازاته بالأرقام، لكن القائد الحقيقي يُقاس بقدرته على تغيير حياة وقناعات من يعملون معه إلى الأفضل، وبمقدار ما يتركه من أثر طيب في نفوسهم قبل حسابات الميزانيات.
وربما الأجمل أن ندرك أن قصص النجاح مثل هذه ليست بعيدة عنا في مؤسساتنا وشركاتنا ومجتمعاتنا. نحن أيضًا نحتاج إلى قادة يصنعون الأمل، يتجرأون على القرارات الصعبة، ويؤمنون أن النجاح لا يُصنع بالسيطرة وحدها، بل بالثقة، والصدق، والشجاعة، وبالقرب الحقيقي من من يعملون معهم.
فالإدارة في النهاية ليست مجرد مهنة، بل هي رحلة إنسانية عميقة، تصنع فارقًا في حياة البشر كما تصنع فارقًا في مسار الشركات.