عندما قال لي هادي فهمي: أنا أكبر من الوزير بربع ساعة

في خريف عام 2002، اتصل بي شخص ما، وطلب مني نشر موضوع عن فساد أحد الموظفين بشركة مصر للبترول. وافقت على الفور، وحصلت على الأوراق منه، لكنه سألني: “أنت تعرف مين ماسك مصر للبترول؟”
قلت: “لأ.” قال: “اللي بيرأس مصر للبترول هو أخو وزير البترول، هادي فهمي.”، ولأنني كنت في عنفوان شبابي، ولست ممن يتوددون في بلاط صاحبة الجلالة – أيام أن كان يُطلق عليها هذا الوصف – قلت له: “يا رب يكون إله، ما يهمنيش حد.”
أعطاني الرجل رقم تليفون الأستاذ هادي فهمي، واتصلت به على الفور من تليفوني ماركة “سوني إريكسون” – طوله نص متر – وحددت معه موعدًا فورًا، بعد أن صرّحت له بأن هناك فسادًا داخل الشركة ولابد من مقابلته.
ربما أدرك الأستاذ هادي بحنكته وذكائه – الذي عرفته لاحقًا – أنني صحفي مبتدئ، ومع ذلك استجاب بسرعة.
في اليوم التالي، كنت أجلس معه داخل مكتبه. كانت السجادة الحمراء تُخيم على شركة مصر للبترول في كل الأدوار التي تطأها قدماه.
دخلت عليه، وبعد أن رحّب بي وقدّم لي واجب الضيافة وكأننا أصدقاء منذ سنوات، قال:
“إيه حكاية الفساد والأوراق؟”
قصصت عليه الأمر، فاكتشفت أنه كان على علم بالواقعة منذ أيام، وخلال ساعات اتخذ قرارًا بنقل الموظف المذكور والتحقيق معه.
حينها، أدركت مدى أهمية أن يكون المسؤول قويًا، وكيف أن اليد المرتعشة لا تصنع نجاحًا داخل أي مؤسسة.
ودّعني الأستاذ هادي حتى آخر طرقة في مكتبه – وهو طويل، وكل من زار مصر للبترول يعرف ذلك – على وعدٍ بأن أتواصل معه وأزوره دائمًا.
انصرفت، وقابلت الشخص الذي سلّمني الأوراق، فحكيت له ما جرى، فقال لي: “ألم تطلب شيئًا من هادي فهمي؟” قلت له: “أطلب إيه؟”
لم أكن أعرف وقتها ما الذي يمكن أن يمنحه شخص مثله لشخص مثلي. لم أكن أدرك أن من يعرف رئيس شركة بترول بحجم هادي فهمي يمكنه أن يستفيد كثيرًا.
لكن تداركت الأمر. كل ما أردته هو كتابة موضوع صحفي أو إجراء حوار يجد طريقه للنشر، فقط ليُعرف اسمي وأحصل على مكافأة تسد حاجتي.
بعد أسبوع، عاودت الاتصال بالأستاذ هادي فهمي، وطلبت منه إجراء حوار عن الرياضة، فوافق على الفور. ثم أجريت معه حوارًا آخر لمجلة “آدم اليوم”، وهي مجلة تهتم بالمشاهير ورجال المال والأعمال. ولأن محور الحوار كان عن التوأم، فقد تم اللقاء في منزله بمصر الجديدة. قدّم لي صورًا تجمعه بتوأمه المهندس سامح فهمي. وخرج غلاف المجلة، وكانت شهرية، بعنوان: “هادي فهمي: أنا أكبر من الوزير بربع ساعة”.
استمرت علاقتي بعد ذلك بالأستاذ هادي، فسألني: “بتكتب في إيه؟ إيه تخصصك؟” قلت له: “بشتغل محرر فني.” فقال لي: “ما تسيبك من الفن والهحس ده وتعالى اكتب عن البترول.” عرفني وقتها بالأستاذ حمدي عبدالعزيز وبعض رؤساء الشركات.
في ذلك الوقت، كان الأستاذ هادي فهمي أمين الحزب الوطني بالقاهرة، أو بمدينة نصر – على ما أذكر – وكان معظم رؤساء وقيادات البترول بالقاهرة أعضاء في الحزب.
وكان هادي فهمي يجتمع بهم أسبوعيًا داخل قاعة الشركة العامة للبترول. حرصت على التواجد، فهذه فرصة للتعرف والتقرب من رؤساء الشركات. وبالفعل، تعرفت على المرحوم عاصم السيد، واللواء حمدي عبدالسميع، والمهندس مصطفى إسماعيل، وسيف الإسلام عبد الفتاح، ومحمد كروش، وعدد كبير من قيادات القطاع. وظلت علاقتي بالأستاذ هادي كعلاقة الأب بابنه.
بعدها بعام واحد، صدر له قرار بتولي رئاسة الشركة القابضة للتجارة، التابعة لوزارة الاستثمار.
لكن لم تنقطع علاقته بالبترول أبدًا، ظل بها في حالة سيجال مع وزير الاستثمار وقتها، ومع صفقات البيع التي كان يعارضها.وفي كل صباح، كانت تخرج مانشيتات الصحف وعليها صورة هادي فهمي. كان “عمر أفندي” وبيعه حديث العالم، وهادي فهمي هو المعني بالأمر. لم يوافق على صفقات البيع المشبوهة، فما كان من الوزير إلا أن صفّى الشركة القابضة للتجارة، فعاد هادي فهمي إلى هيئة البترول. لكن هذه المرة لم يعد مسؤولًا، بل عاد موظفًا عاديًا حتى خروجه إلى المعاش.
لكن هادي فهمي لم يكن مجرد موظف أو قيادة عابرة داخل قطاع البترول. ظل اسمه لامعًا، ليس لأنه توأم الوزير، بل بسبب شخصيته الطاغية وكاريزمته الفريدة.
حتى هذه اللحظة، لا أذكر أنني طلبت منه دعمًا أو مساندة إلا وقدمه لي فورًا.
الجميع يعرف من هو هادي فهمي.
هو الرجل الذي عاش بمجده الشخصي، لا بالمناصب، وارتبطت علاقته بالناس بالمحبة لا بالكرسي.
حتى جمعية البترول، التي يشغل منصب الأمين العام بها، يطغى حضوره فيها على الجميع.رغم عظمة الاعضاء ، وهكذا خلقه الله.
مرت السنين، وجاءت ثورة 25 يناير 2011، وتم حبس 6 من قيادات البترول، على رأسهم المهندس سامح فهمي. ولم أبتعد عن الأستاذ هادي أبدًا، رغم قسوة المدة على نفسيته. كان يحمل جبلًا من الهموم، فشقيقه الذي اقتسم معه الغذاء في رحم أمه، صار خلف القضبان.
شاء القدر أن تتكشف الحقيقة، ويحصل المهندس سامح فهمي على البراءة. وفي تلك الجلسة كنت حاضرًا. عندما نطق القاضي بالحكم، بكى هادي فهمي وبكيت معه، واحتضنته. والمشهد موثق على اليوتيوب.
خاض هادي فهمي معركة قاسية خلال الثورة. نظرات الناس، الأحقاد، الاتهامات الجاهزة، لكنه ظل متماسكًا. لديه أرضية صلبة من المحبة، تسنده وتقويه.
آلاف الناس يلتفون حوله، ولا يزالون. يحيطونه بالحب، كما أحاطهم هو، وأنا واحد منهم.
وبعد مرور أكثر من 23 عامًا، أعترف: هادي فهمي هو صاحب الأيادي البيضاء. كان ولايزال المعلم والمرشد، والناصح، والمساعد، والداعم. كثيرون قدموا لي العون، لكن يظل هادي فهمي هو الداعم الأول. فليس من أعطاك مليون دولار وأنت في غير حاجة، كمن أعطاك ثمن رغيف خبز وأنت جائع.
#سقراط