الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 الموافق 10 رجب 1447

مجرد رأي: مجدي جلال…حين يسبق الوعيُ الحدث

281
المستقبل اليوم

في الأزمات الكبرى، لا يكون السؤال الحقيقي: من المتسبب؟
بل: من قرأ التحوّل مبكرًا، ومن امتلك شجاعة التحذير قبل أن يصبح الخطر واقعًا؟

بهذا المعنى، لا يمكن قراءة ملف الغاز في مصر دون التوقف أمام تجربة الدكتور المهندس مجدي جلال، أحد أبرز أعمدة الدولة الفنية، ورجل الإدارة العميقة الذي تولّى قيادة الشركة القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) في توقيت بالغ الحساسية، تداخلت فيه ذروة الإنتاج مع تسارع الاستهلاك، وتوسّعت فيه الدولة في مشروعات قومية كبرى دون أن تغيب عنه حسابات المستقبل.

منذ تولّيه رئاسة «إيجاس» عام 2020، تحرّك مجدي جلال بعقلية رجل الدولة لا بعقلية شاغل المنصب. لم يكن أسير الأرقام المبهرة ولا مفتونًا بلحظة الوفرة، بل كان يدرك—بحكم خبرته الطويلة—أن الاستقرار الظاهري قد يُخفي تحته تحولات هيكلية لا تظهر إلا مع الزمن، وأن الوفرة إذا لم تُدار بحكمة قد تتحول إلى عبء مؤجل.

مجدي جلال ينتمي إلى مدرسة ويبكو العريقة، تلك القلعة الصناعية التي ارتبط اسمها بإنتاج الغاز من حقل أبو قير، أحد أقدم وأهم الحقول البحرية في مصر. كما يُحسب له شرف المشاركة في تأسيس مجمع غازات الصحراء الغربية، وهو إنجاز لا يُسجَّل لمجرد مدير، بل لجيلٍ من البنائين الذين أسسوا القواعد قبل أن يتصدروا المواقع. هذه الخلفية المهنية تضع الرجل في مصاف الروّاد وصُنّاع القرار، لا في خانة العابرين.

قاد «إيجاس» في ذروة ازدهارها، حين بلغ إنتاج حقل ظهر أعلى مستوياته، وحين كانت الدولة تنفذ المشروع الرئاسي لتوصيل الغاز الطبيعي للمنازل بمعدلات غير مسبوقة تجاوزت مليون وربع المليون عميل سنويًا ضمن مبادرة حياة كريمة، إلى جانب مشروع تحويل السيارات للعمل بالغاز الطبيعي. وكانت تلك مرحلة إنجازات حقيقية عززت ثقة الدولة والمجتمع في قدرة قطاع الغاز على تلبية الاحتياجات الوطنية.

غير أن القادة الحقيقيين لا يُقاسون بما يحققونه في أوقات الرخاء فقط، بل بقدرتهم على استشعار المخاطر قبل وقوعها. وهنا تتجلى إحدى أهم النقاط الإيجابية في تجربة مجدي جلال؛ إذ كان من أوائل من انتبهوا إلى التناقص الطبيعي في معدلات الإنتاج، وإلى اقتراب نقطة التوازن التي قد يتجاوز فيها الاستهلاك المحلي قدرات الإنتاج. ولم يكتفِ بالإدراك، بل دقّ ناقوس الخطر مبكرًا، وطرح رؤيته من خلال مذكرات فنية موثقة داخل الأطر المؤسسية، لا عبر ضجيج إعلامي أو تصريحات استعراضية.

السؤال الذي طُرح لاحقًا حول الاستيراد، وأسعاره الفورية المرتفعة مقارنة بالتعاقدات الآجلة، تحوّل—عند القراءة المتأنية—من مساحة نقد إلى دليل على صحة الرؤية المبكرة. فالتقارير التي تحدثت عن تأثير دخول مصر كمستورد كبير في توقيت ضيق، ورفع الأسعار العالمية بنحو 2٪ آنذاك، لا تُدين من حذّر، بل تُبرز أهمية التحذير الذي سبق القرار.

وما يجب التأكيد عليه أن هذه الرؤية لم تكن نتاج حدس أو تخمين، بل ثمرة عمل هندسي معروف عالميًا في هندسة الإنتاج والمكامن، تُبنى به السيناريوهات المستقبلية، وتُقدَّر المخاطر، وتُصاغ البدائل. وهي الأدوات نفسها التي تعامل بها مجدي جلال بعقلية المهندس المحترف، لا بعقلية المسئول المؤقت الباحث عن إنجاز سريع.

وحين تطورت الأحداث، ووجدت الدولة نفسها في مواجهة سوق عالمي شديد الشراسة، لا يعترف إلا بالحلول مرتفعة التكلفة، أصبح واضحًا أن ما جرى لم يكن إخفاق فرد، بل تحديًا مركبًا لمنظومة كاملة تعمل عبر سنوات وقيادات متعددة. وهنا تتجلى نقطة إيجابية أخرى في سيرة مجدي جلال: إيمانه بالعمل المؤسسي، وإدراكه أن قرارات بحجم استيراد الغاز وتهيئة بنيته التحتية لا يمكن أن تكون قرار شخص واحد، بل نتاج مائدة قرار تضم أثقل قيادات القطاع.

وقد غادر مجدي جلال موقعه في هدوء الكبار، دون ضجيج أو تبرير أو تحميل للآخرين، مكتفيًا بأن تظل الوثائق والرؤى شاهدة على ما قدمه. وفي زمن يسارع فيه البعض إلى الدفاع عن أنفسهم بعد الرحيل، كان صمته تعبيرًا عن ثقة رجل يعرف أن الزمن كفيل بإنصاف أصحاب الرؤية.

إن طرح الأسئلة اليوم حول أزمة الغاز لا يجب أن يُقرأ بوصفه اتهامًا، بل فرصة لتحويل التجربة إلى خبرة وطنية متراكمة. وما أثير من جدل أعاد فتح ملف كان لسنوات حكرًا على المتخصصين، وأدخل المواطن العادي إلى دائرة الفهم والتحليل، وهو تطور صحي فرضته طبيعة الأزمة.

لكن يبقى الثابت أن الدكتور المهندس مجدي جلال لم يكن سببًا في أزمة، بل كان جزءًا من الحل المبكر، وصوتًا استبق التحوّل، وترسًا محوريًا في ماكينة وطنية ضخمة أدّى دوره بشرف وكفاءة، وترك أثرًا واضحًا في سجل صناعة الغاز المصرية.

وفي كل أزمة وفي كل إخفاق، فعلى من يبحث عن متهم، أن يفهم أولاً … ثم يتكلم.والسلام.

#سقراط




تم نسخ الرابط