الإثنين 27 أكتوبر 2025 الموافق 05 جمادى الأولى 1447

أحمد البري يكتب: اليوم العالمي للحريم

168
المستقبل اليوم

دعاني أحد الأصدقاء للذهاب سوياً لحضور ندوة تنظمها إحدى الهيئات الحكومية، الساعة الحادية عشر ظهراً كنت جالساً داخل سيارته مجاورا لمقعد السائق لنلحق بالندوة المحدد لها توقيت الساعة الثانية عشر ظهراً .

أمتار قليلة تحركت خلالها السيارة ثم توقفنا أسفل إشارة المرور الحمراء وحرص صديقي على أن يزاحم السيارات الأخرى ليكن في الصدارة و على أهبة الاستعداد حين تتغير الإضاءة إلى اللون الأخضر و كنت مسبقاً قد ربطت حزام الأمان استعدادا لتلك اللحظة المشئومة، ثواني قليلة و بزغ اللون الأخضر معلناً شارة البدء للسادة راكبي المواتير الحديدية للدخول إلى الحلبة، ضغط صديقي بكل قوته على مقود البنزين و أرتفع شهيق محرك السيارة و خرج زفيره في شكل صافرة مزعجة صادره من العجلات الأمامية و رائحة احتراق الكاوتشوك الكريهة تضفي على رائحة الهواء الملوث نكهة إضافية ،المحركات المغلفة بالصناديق الحديدية تنهب الطريق نهباً ، حتى أنني لأتصور حال وجود سكان  لكواكب أخرى يتسلون بمشاهدتنا من ثقب الأوزون لاعتقدوا أن تلك المحركات هي قطع شطرنج مكونة فقط من الفيل و الحصان ، تتحرك بزوايا حادة و منفرجة لكنها أبداً لا تسير في خطوط مستقيمة أردت أن أهدأ من وتيرة المعركة التي يشارك بها صديقي و توجهت له بالسؤال عن عنوان الندوة المتجهين إليها أجابني أن العنوان هو " المرأة مرآة المستقبل" حاولت أن أبتلع إجابته لكنها لم تستساغ داخل رأسي ، فأعدت عليه قائلا ،هل أنت متأكد من عنوان الندوة؟ ، نظر لي ضجراً و أخرج لي من جيب بدلته ورقة من الحجم السميك تشبه دعاوى حضور الأفراح و ناولها لي دون أن تفارق عينية أطراف الصراع الدائر على الطريق كتب على الورقة ما ملخصه ، أن هيئة كذا تدعوكم لحضور ندوة بعنوان "المرأة و تحديات المستقبل" و ذلك بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمرأة على أن تبدأ الاحتفالية في تمام الساعة الثانية عشر ظهرا بقاعة كذا مبنى كذا و قبل الموعد بعشر دقائق كنا أمام مبنى يبدو عليه إنه الشقيق الأصغر لمبنى مجمع المصالح الحكومية الشهير، و لا عجب في ذلك فجميع تلك المباني الرسمية شيدت خلال فترة زمنية متقاربة ما بعد 1952، حرص النظام وقتها على إنشاء مباني تحمل سمت التقشف و التصميم العملي مخالفة بذلك ضرتها الملكية التي كانت تتميز بالفخامة و الذوق الرفيع .

ولجنا أنا و صديقي داخل المبنى، خطوات قليلة وكنا داخل قاعة المؤتمرات المقام بداخلها الندوة، قاعة مسرح متوسطة الحجم تتسع تقريبا ل خمسمائة فرد ، على المنصة الرئيسية رست منضدة خشبية بعرض المسرح يتوسط تلك المنضدة شعار الجهة الحكومية ، عدد الحضور لا يزيد عن أربعون فرد على أقصى تقدير ، دقائق و تسرب بعض أفراد الأمن الإداري إلى داخل القاعة و أشاروا للحضور بالنظام و التزام الهدوء إيذانا بقدوم السيد رئيس المصلحة ، لحظات و دخل القاعة من باب جانبي رجل وقور أصلع الرأس نحيف الجسد مرتدياً بدلة كاملة يسير في تأن و ثقة ، تتبعه امرأتان من ذوات الوجوه المطمئنة، أحداهن تغطى شعرها و الأخرى كاشفه له، يرسلن ابتسامتهن إلى الحضور بود ملحوظ ،صعد الثلاثة إلى المنصة الخشبية ، جلس الرجل الوقور في المنتصف على يساره المرأة ذات حجاب الشعر و على يمينه السيدة الأخرى .

أمسكت المرأة المحجبة بالمايك وبدأت بالنقر عليه بأصبعها بطريقة تظهر خبرتها في إدارة ذلك النوع من اللقاءات، رحبت بالحضور وعرفت نفسها كمدير إدارة العلاقات العامة وقدمت السيد رئيس المصلحة بادئة بعبارة " أن الريس يبدي اهتمام  بالمرأة واعتبارها جزء لا يتجزأ من منظومة العمل، ثم تحولت إلى الترحيب بالمرأة الثانية وعرفتها على أنها واحدة من النقابيات الذين يولون الشأن والاهتمام الخاص بقضايا وحقوق المرأة سواء النسوة العاملات أو غير العاملات

أنتقل المايك إلى المرأة النقابية التي أخذت في الإشادة بدور الدولة ومؤسساتها في الاهتمام غير المسبوق بالمرأة، وعرجت على أهمية دور المرأة في تربية النشأ وإعداد قادة المستقبل  والدور المحوري للمرأة كحصن أمان للأسرة والمجتمع ككل 
ثم انتقلت الكلمة إلى رئيس المصلحة، الذي أمسك المايك بكل هدوء وبسمل وحمد وحوقل
وبدأ يردد "بقصد أو دون قصد" نفس الجمل والكلمات والتي ذكرتها المرأة النقابية، و بعد أن أسترسل في التكرار و الذي يبدو أنه أنتبه له و أستشعره، انتقل إلى دور الشرائع السماوية في تكريم المرأة و أخذ يذكر أمثلة من هنا و هناك إلى أن أنهى كلمته و ألقى السلام و قام سريعا لمتابعة أعماله و تبعته المرأتان في خطوات مسرعة .

خرجنا من القاعة و توجهنا جميعاً إلى قاعة جانبية رصت بداخلها مشروبات ساخنة و باردة  و بعض المخبوزات ، ألتهمنا ما تيسر لنا و خرجنا مسرعين من تلك القاعة الرطبة لاستنشاق الهواء ، تجدد الاكسجين في الدورة الدموية جدد معه نشاط المخ في الدماغ و نشط معه العديد من الذكريات، تقريباً من بلغوا السبعون عاماً يسمعون منذ طفولتهم هذا الحديث المكرر عن المرأة و دور المرأة...إلخ، في حين أن العقل الجمعي و السلوك السائد للمجتمع يقول غير هذا، و لا أنسى جدال نشأ مع صديق لي و هو بالمناسبة أستاذ جامعي في سن الشباب حاصل على الدكتوراة من جامعة أوروبية عريقة و موضع الخلاف هو قناعته التامة أن خراب المجتمع بدأ مع خروج المرأة للعمل و هو لا يختلف كثيرا عن السواد الأعظم من مجتمع الذكور الذي يؤمن أن الإناث هي ملكية خاصة للذكر و هو الذي يقرر نسكها و محياها إلى إن يقرر الله مماتها
هذا من ناحية، لكن من الناحية الأخرى ما هي الكلمات المتوقع تداولها خلال ندوة رسمية يديرها موظفون حكوميون أجبروا واعتادوا على السباحة في اتجاه التيار وتبني المبدأ القائل بربط الحمار مطرح ما يعوز صاحبه 
وماذا لو قرر رئيس المصلحة أن يكون واقعياً في كلماته، ويناقش ويتحدث بوضوح عن المشكلات الحقيقية للإناث، ما هي الكلمات والمدخل المناسب للحديث "غير المنمق" عن وضعهم داخل المجتمع .

في الحلقة الثانية من هذا المقال سوف نفكر سوياً في المدخل المناسب لو قرر رئيس المصلحة أن يلقي كلمة "حقيقية" عن اليوم العالمي للمرأة.




تم نسخ الرابط