أحمد البري يكتب: التعويم على طريقة الكابتن إبراهيم

قصة الشاطر أكرم: الجزء الثاني
أكرم، صديق لنا من أبناء المنطقة، نشأنا و تربينا معنا، ليس له أي نصيب من أسمه فلا هو من ذوي الكرم و لم تمر عليه مكارم الأخلاق حتى ولو مصادفة، في طفولته كان طفلاً شقي و عدواني و دائم التسلط على باقي أحباب الله ، شيطان من الأنس على هيئة طفل ،وعند بلوغه مرحلة المراهقة تطور بعض الشيء وصار مشروع مثالي لمسجل خطر من الفئة (أ) ، بذئ اللسان، لا يحترم الكبير و لا يعطف على أي صغير، يضع في جيبه علبة سجائر مالبورو ذات اللون الأحمر يحرص على إظهارها بمناسبة أو دون مناسبة و على وجهة نظارة شمسية رخيصة تجعله يبدوا كحارس شخصي لأحد أفراد المافيا، كان يستغل بعضا من شجاعته و الكثير من رشاقته و خفة جسده في التزويغ المستمر و القفز فوق جميع أسوار المدارس التي التحق بها، و هوما أدى به في النهاية إلى عدم حصوله على المجموع الكافي للدراسة بالثانوي العام و التحق "على خلافنا نحن أصدقائه" بالثانوي الصناعي ، إن خرجت للشارع في أي وقت فستجده أما يلعب الكرة أو يلعب جيم "أتاري" أو يتعارك مع جميع الكائنات الحية بما فيهم قطط و كلاب الشوارع ، كل هذا و هو ابن الخامسة عشر
عندما دبرنا له مكيدة اختبار الكابتن إبراهيم ، أخبرناه نحن مجموعة النادي إننا قد حصلنا له على إذن بدخول حمام السباحة في وقت التمرين، حيث العدد قليل والحوض غير مزدحم مقارنة بفترات الدخول بتذاكر، وكل ما علية ان يرتدي الشورت وينتظر في صمت داخل غرفة خلع الملابس و لا يتبادل الحديث مع أحد إلى أن يحين دوره و يسمح له بالدخول، جلسنا نحن المتدربين داخل حمام السباحة نراقب اختبارات الأداء و كلنا ترقب للحظة التي سوف يتم فيها إلقاء هذا المتعجرف في الماء، و جاءت اللحظة الموعودة عندما دخل يتبختر في مشيته المصطنعة و ينظر إلى الجميع بتعال و أنفة، علت تعبيرات التعجب وجه الكابتن إبراهيم و أشار له أن يأتي ، حاول اكرم و هو في طريقه للكابتن أن يضخ الهواء إلى عضلاته ليبدوا كلاعب كمال أجسام مبتدئ ،لكن هيهات مع هذا الجسد النحيف متوسط الطول أن تفلح معه تلك المحاولة الفاشلة، تكرر معه السيناريو المعتاد و تم إلقائه "على حين غره" في منتصف المياه العميقة، حين ظهرت رأسه الضئيلة بين فقاعات المياه انفجرت من فمه ماسورة تحمل كل ألفاظ السباب البذيئة الموجهة لنا و للمنقذين و بالطبع كان النصيب الأكبر من البذاءة موجهه إلى الكابتن إبراهيم و أباه و أمه كلا على حدا، لم يهتم الكابتن نظراً لاعتياده على هذا النوع من ردود الأفعال، لكنه ظل يرقب أكرم في صمت، بعد مرور لحظات قليلة و ابتلاع أكرم كمية لا بأس بها من الماء، تغيرت كلماته البذيئة إلى كلمات أخرى تحمل طابع الاستجداء" طلعوني هموت، أبوس أيدك يا كابتن طلعني" فأجابه الكابتن بجملة مقتضبة قائلاً " سد بوزك و عوم" عندها لم يجد أكرم سبيلاً أخر للنجاة سوى المحاولة ،فبداء يعوم بطريقة أقرب إلى عوم الضفادع لكنها لم تفلح معه ، وبداء يضرب المياه بقدمية بكل قوة محاول الوصول إلى سلم الحمام و أيضا لم يفلح ، و أخيراً بداء يعوم في الماء مستخدما قدميه و ساقيه معاً بطريقة تشبه عوم ذوات الأربع من الحيوانات، و نجح أخيرا في الخروج بسلام من الماء العميق ، جميع تلك المحاولات كان الكابتن إبراهيم يرقبها بنظراته الحادة الفاحصة دون أن ينطق بكلمة ، خرج اكرم من الماء باكياً و سار منكس الرأس متجها إلى باب الخروج و قبل أن يبلغه نادى عليه الكابتن إبراهيم و أخبره أن يقوم بدفع رسوم الاشتراك و يأتي إلى التمرين بداية من السبت القادم ، لم يعره اكرم أي اهتمام و خرج سريعاً ، وبعد نهاية فترة التدريب مررنا عليه في منزلة طمعاً في أن يكون تسلية ليلة الخميس لكننا لم نره لمدة ثلاثة أيام متتالية على غير العادة ، و في تمرين يوم الأثنين شاهدناه بين المتدربين الجدد و كان أول مراحل التحول التي فوجئنا بها أنه قص شعر رأسه و صار أصلع الرأس تماما و هو أمر لم نكن نتوقعه خاصة أن شعره الطويل الناعم المسدل على جبهته كان من أدوات تفاخره وغطرسته على الأخرين ، ثم اتت تحولات أخرى لم نكن نتخيلها ، فصار أكرم ينتظم في التمرين بشكل ملحوظ و بذكائه الفطري بداء يعرف نقاط ضعفه، فالتحق بالتمرين في أحد الصالات الرياضية و طلب من المدرب الخاص بتلك الصالة نظام غذائي و تدريبي خاص ببناء العضلات ، و بعد مرور 6 أشهر و انتظام أكرم و مثابرته على تدريب السباحة و بناء العضلات تمكن من إتقان سباحة الحرة و المفاجئة التالية إنه و بعد مرور عامين و نصف تمكن من الحصول على المركز الثالث في بطولة الجمهورية في سباق 50 متر حرة ، تلا ذلك النجاح المبهر في مجال الرياضة نجاح أخر في مجال الدراسة ، لأن أكرم و بعد أن استرد ثقته "الحقيقية" بنفسه بداء في استذكار مواده الدراسية بكل اتقان و مثابرة و تمكن و هو في الصف الثالث الثانوي الصناعي من الحصول على مجموع مرتفع أهله للالتحاق بكلية الهندسة، كل هذا يمر أمامنا نحن رفاقه و أبناء منطقته و نحن غير مصدقين لتلك التحولات الغير متوقعه التي لم نكن نشاهدها سوى في الأفلام و المسلسلات
في العام 2000 انحسر نشاط النادي واقتطع الحي جزء من حديقته بغرض توسيع الطريق وقامت إدارة النادي بعرض باقي الحديقة للإيجار وأنشأ عليها العديد من الأكشاك التي تقوم ببيع منتجات مختلفة، وبالنسبة لحمام السباحة أنصب اهتمام الإدارة على جنى الأرباح وتم التوسع في فترات التذاكر وتقليص فترات التدريب إلى أقل حد ممكن، إرهاصات لم نكن على دراية بها في ذلك الوقت، لكنها لاحقاً شكلت أهم معالم الواقع الجديد
في مطلع العام 2002، كنا قد التحقنا جميعا بالمرحلة الجامعية وقرر صديقنا الفلتة أكرم أن يتجه خلال الإجازة الصيفية إلى مدينة شرم الشيخ بغرض العمل و كسب المال، وقتها كانت صناعة السياحة قد بدأت في النمو و ظهر القطاع الخاص بقوه في ذلك النشاط، و عند سفر اكرم إلى شرم الشيخ قرر تعلم الغطس والتحق بأحد المراكز المتخصصة و حصل على رخصة بمزاولة تلك المهنة وبداء في العمل غطاس رفقة الأفواج السياحية الراغبة في مشاهده ذلك العالم البديع الكائن تحت مياه البحار، عاد اكرم للدراسة و هو يحمل مبلغا من المال لم نحلم نحن أصدقائه بامتلاكه و جميعنا من أبناء الطبقات محدودة الدخل
أستمر اكرم على هذا المنوال بين المواظبة على الدراسة و عمله الموسمي خلال فترة الإجازة الصيفية و مع اقتراب أعوامه الدراسية على الانتهاء قرر أن يكون استباقياً وبداء في التخطيط لمجال عمله المستقبلي و تدرب على مجال جديد لم نكن نسمع عنه كثيراً في مصر و هو مجال "اللحامات تحت الماء" ، عند تخرجه و حصوله على شهادة الهندسة كان قد اتقن تلك المهنة و بداء باستخدام البريد الاليكتروني و الذي كان اختراعاً وقتها في مراسلة الشركات متعددة الجنسيات التي لديها منصات بحرية خاصة باستكشاف واستخراج مصادر الطاقة ،
أجابته أحدى تلك الشركات بالقبول و أرسلت له عقد العمل و تأشيرة و تذاكر السفر إلى دولة الأمارات و بداء هذا البطل الغير متوقع بأداء مهام عمله في منطقة الخليج ،و ازدادت خبرته و مهارته في ذلك المجال و أخذ يتنقل بين شركة و أخرى إلى أن وصل لمستوى عال من الخبرة أهله إلى أن يكون مديرا تنفيذيا على مجموعة من الغطاسين المحترفين، مرت الأعوام مسرعة كعادتها و أصبحنا لا نلتقي به إلا خلال إجازات نهاية الأسبوع عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي
في نهاية عام 2023 كانت الأوضاع المعيشية داخل مصر قد وصلت إلى وضع مرير، داخلياً ونتيجة لإجراءات التحول الاقتصادي "الجذري" الذي شهدته البلاد واختبارات الأداء المتكررة التي يقوم بها الجنية أمام الدولار وهو ما أطلقنا علية "التعويم"، أخذت العملة الوطنية تظهر على حقيقتها وتتضاءل شيء ف شيء، ومن تبعات هذه الإجراءات الاقتصادية المتعددة حدوث ارتفاع متزايد في أسعار السلع والخدمات وهو ما يعرف بالتضخم، أما خارجياً فقد شهد العالم جائحة فيروس كورونا إلى جانب حرب بالوكالة بين روسيا و أوكرانيا تعددت فيها الأطراف سواء ظاهرة أو مستترة، وحروب أخرى إقليمية زادت الوضع سوءاً
لكن ما ظل يؤرقني هو هذا الوضع الاقتصادي الذي وصلنا إلية، وما هذا التعويم ورفع الدعم والإجراءات الاقتصادية المتتالية التي جعلت الحياة أكثر صعوبة مما كانت عليه، هل آن الأوان لفهم دلالات ما يحدث؟
حتى نلتقي في الجزء الثالث والأخير