الإثنين 08 سبتمبر 2025 الموافق 16 ربيع الأول 1447

أحمد البري يكتب: “FOMO” الاضطراب الذي أصابنا وأصاب ثلث سكان الكوكب

205
المستقبل اليوم

الجزء الأول

يرن هاتفي المحمول معلناً عن إشعار وصول رسالة جديدة على الواتس اب، تطل الرسالة بلونها الأخضر المميز من خلال جروب أنشأته مع أصدقاء نشأنا معاً حتى تجاوزنا الأربعون، الرسالة مفادها اقتراح من أحدهم باستئجار مركب نيلي للاحتفال بعيد ميلاد صديق كان الفيس بوك قد أخبرنا أن اليوم هو الموافق لعيد ميلاده
سريعاً أتصلت بشخص أعرفه ،يدير بعض المراكب صغيرة الحجم، أرسل لي صور المراكب المتاحة ، انتقيت أحدهم ، حولت له العربون على الانستاباي ، التاسعة مساء كنا داخل المركب ،و الاتفاق يقضي بجولة نيلية لمدة 4 ساعات

خلال الساعة الأولى كنا قد احتفلنا و أكلنا و شربنا و أستعدنا قليلاً من الذكريات و خلال الساعة الثانية كان الوخم الناتج عن تناول السكريات قد خيم علينا و بدأ الثقل يتسرب إلى جميع خلايانا الحيوية ، من باب العلم عزيزي القارئ فإن هذه المجموعة الموقرة من الأصدقاء تجتمع لمرة واحدة تقريباً كل عام
لم تكد تمر الساعة الثانية من جولتنا النيلية و تجمعنا النادر حدوثه إلا و كانت أيادينا جميعاً قد تسللت خلسة إلى هواتفنا المحمولة و خلال دقائق كانت وجوهنا قد تحولت إلى ما يشبه شاشة البروجكتور ، مجرد انعكاس متغير لشاشات هواتفنا المحمولة

قرب نهاية الجولة، تنبهت إلى عذوبة صوت ام كلثوم وهي تشدوا بأحدي روائعها " آمل حياتي"، ولفحت وجهي نسمات الليل الباردة برائحة نقاء خالية من تلوث المدينة لم تعتدها أنفي وسمرة الليل قد كست النيل بلون كستنائي بديع وأسرت الصفاء داخل الروح،
تلفت إلى أوجه الأصدقاء لعلي أجد منهم من يشاركني الجمال الذي يحيط بنا، ولكن الأعين
والأرواح والعقول كانت غارقة داخل فضاء الشاشات الزرقاء

للحظة عاد بي الزمان إلى أعوام مضت، كنا نحن نفس الأصدقاء وجميعنا من مواليد الثمانينات، نتحرك كل يوم من الصباح إلى المساء بطريقة أشبه بحركة الالكترونات الحرة، نتفاعل مع الكون ويتفاعل الكون معنا

وتساءلت، أي عاقل يترك تلك الصحبة وذلك الجمال المحيط بنا ويدس رأسه داخل تلك الشاشات وأي شيطان قد أغوانا وأمسك بتلابيب أدمغتنا حتى صرنا نتعجب أن مرت بعض الدقائق دون أن نتصفح هواتفنا غارقين في عوالم افتراضية يغلب عليها الخواء الخالي من المعنى..

الرغبة في تفسير ظاهرة الارتباط بين البشر وبين الفضاء المعلوماتي و شاشاته الزرقاء كانت من الأسباب الرئيسية لظهور مصطلح "FOMO" حين نشر أحد رجال الأعمال الأمريكيين عام 2004 مقال خاص بالإدارة و ذكر فيه عبارة fear of missing out
و التي تم اختصارها إلى FOMO و تعني باللغة العربية "الخوف من تفويت شيء" إشارة إلى حالة عامة تجتاح العديد من مستخدمي الإنترنت و المستهلكين على اختلاف أشكالهم،
و سوف أحاول خلال السطور التالية إلقاء الضوء على تلك البذرة الصغيرة " FOMO" لتتبع النبتة التي خرجت منها و أصاب صحتنا النفسية و الاجتماعية في مقتل

تخيل عزيزي القارئ إنك وبتاريخ 1\1\عام 2000 قررت تمضية بعض الوقت بالجلوس داخل أحد المقاهي العامة و جلس بجوارك شخص لم يسبق لك معرفته، ثم أخرج لك هذا الرجل المجهول من جيبه قطعة زجاجية صماء معتمة لا يزيد قطرها عن 6 بوصات و أخبرك إنك تستطيع من خلال تلك القطعة الزجاجية أن تتعارف و تتواصل مع بشر أخرين من مختلف بقاع الأرض و تستطيع أن تحادثهم بالصوت و الصورة و يمكنك شراء جميع الأصناف
و الخدمات من أي مكان و في أي وقت، كما يمكنك مشاهدة و سماع كميات لا تحصى من المواد المرئية و المسموعة ، إلى جانب ألعاب الفيديو الجيم ذات الدقة العالية..

الخلاصة إنك تستطيع أن ترفه عن نفسك وتشتري طعامك وكل احتياجاتك وتدير أعمالك و انت جالس في مكانك رفقة تلك القطعة الزجاجية الصماء!

لو أمعنت التخيل في هذا الموقف فبالتأكيد سيكون رد فعلك أن تضرب كفا على كفا وتدعوا لهذا الرجل المجهول بالشفاء من حالة الجنون التي أصابته، لكن الواقع هنا أن ما تخيلته جنوناً سوف يصير أمرا واقعا لا يمكن إنكاره وذلك فقط خلال العشر أعوام التالية من العام 2000

حقيقة وليس خيالاً سوف ينشأ هذا العالم الرقمي المبهر والذي سوف يكون من الصعب على الإنسان المعاصر أن يقاوم جاذبيته إلى جانب أن هذا العالم الرقمي سوف يتفاعل معك وسوف تتأمر عليك الخوارزميات وملفات الارتباط "الكوكيز" لضمان أن تدفن رأسك داخله مثلما كان آبائك يدفنون رؤاسهم داخل لعبة صندوق الدنيا

والآن وبعد أن تذوقنا ملذات العوالم الرقمية وصارت الشاشات الزرقاء ملاذنا الأول للهروب أو لنقل كسر العزلة التي أحاطت بأرواحنا ونهلنا من كؤوس الترفيه ما أثقل أمخاخنا، وضحكنا
وبكينا من سيل الأخبار والفيديوهات التي انهالت علينا دون إشعارات مسبقة...
لماذا لا نجرب أنا وأنت عزيزي القارئ أن نقوم بفصل الأنترنت عن أدمغتنا لمدة 24 ساعة
أو لنجعلها 36 ساعة؟

بالنسبة لي ذلك الاقتراح يصيبني "نوعاً ما" بالتوتر وأعتقد أن ذلك التوتر قد يشاركني به المليارات من البشر مستخدمي الأنترنت، والتوتر أو القلق هو الأبن الشرعي والذراع الأيمن للشعور الذي نكرهه جميعاً وهو الخوف

بذلك نكون قد وصلنا إلى الكلمة الأولى من مصطلح FOMO وهي كلمة Fear والتي تعني الخوف

نحن جميعاً خائفون، خائفون من الشعور بالعزلة عن تطبيقات التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية
خائفون من أن تفوتنا متعة مشاهدات التيك توك ومقاطع الفيديو القصيرة المتنوعة
خائفون من أن تفوتنا عروض المطاعم وتخفيضات التسوق وتحديثات الألعاب
خائفون أن يفوتنا شيء ما تمكن غيرنا من الوصول إليه....

خلال السطور التالية سوف نلقي الضوء على التفسير العلمي المبسط للخوف والقلق الناشئ من استخدام الشاشات الزرقاء وكيف تحولت تلك الشاشات إلى مواد إدمانيه لا يخلو منها أي منزل

أجساد البشر وجميع الكائنات الحية مصممة على نظام متوازن بدقة متناهية لا يمكن التلاعب به، وللتوضيح.. تخيل عزيزي القارئ إننا نحمل داخلنا ميزان ذو كفتين يشبه ميزان العدالة المرسوم على أغلب قاعات المحاكم، هذا الميزان دقيق ولا يقبل الجدل في قياساته فمثلاً انخفاض أو ارتفاع ضغط الدم هو مشكلة صحية تستوجب العلاج لكن القيمة المتوازنة هي القيمة المثالية، وتستطيع استبدال المثال السابق بمئات الأمثلة التي تؤكد صرامة مبدأ التوازن داخل أجسادنا كشرط أساسي للصحة الفسيولوجية

كذلك المشاعر مثل الخوف والسعادة والحزن، لها محددات دقيقة وأي خلل في تلك المحددات تمثل الخطوة الأولي نحو خلل الصحة النفسية

لولا الخوف ووريثة الشرعي المسمى بالقلق لانقرضت غالبية الكائنات الحية منذ ملايين السنين، لأن الخوف والقلق هو ما يدفعنا للهرب عند الإحساس بخطر يهددنا، ولكن زيادة الخوف/القلق هو أقصر الطرق إلى كوكبة من الأمراض العضوية والنفسية مثل اضطرابات الرهاب والهلع والوسواس القهري وصولا إلى عمدة الاضطرابات النفسية وأحد أهم أمراض العصر وهو الاكتئاب

في الجزء الثاني والأخير من هذا المقال سوف أروي قصة قصيرة أحاول فيها تبسيط وتوضيح كيف تتفاعل كيمياء أدمغتنا مع الاستخدام المفرط للإنترنت والشاشات الزرقاء.
وإلى أن نلتقي




تم نسخ الرابط