الإثنين 09 ديسمبر 2024 الموافق 08 جمادى الثانية 1446

"العك" فى الوقت الضائع

5930
عثمان علام
عثمان علام

الآن فقط أشعر أنني العب فى الوقت الضائع ، مثل لاعبو كرة القدم الذين يحرزون الأهداف ثم سرعان ما تنطفىء عنهم الأضواء ويذهبون لبعيد ، لكن هذا البعيد قد يكون أفضل كثيراً من تلك الأضواء التي تحرق صاحبها أحياناً ، وتجلب له المتاعب أحياناً أخرى ، قد يكون هذا الشعور بعيد عن من سبقوني قبل عشرة أو عشرين سنة .

الآن أبدأ عِقداً جديداً من العمر ، من اليوم "وإذا كان فى العمر بقية"، اتخطى الاربعون او الخمسون ، لا يهم كم عدد السنين ، ما يهم عدم النظر للخلف ، فقد كان منه ما هو مؤلم ، والذاكرة قد تختزله ، ومنه ما هو سعيد وتحتفظ الذاكرة به ، لكن طالما أن الله لايزال ينعم عليَّ بستره فهذا أفضل ما يكون .

إن أجمل ما يثيده الله إليك هو حب من حولك ، نعم قد يكون حباً لمصلحة أو لمناسبة أو لمجرد كلمة تفوهت بها في حق أحد صدقاً ، أنا اؤمن بأنه ليس هناك من يحبك حباً خالصاً ، حتى أولادك ، فالذين كانوا يحبونك دون مقابل قد رحلوا وغطى التراب أجسادهم ، وهذا طبيعي ولا يغضبني ، أنا اتعامل مع البشر على أنهم بشر وليسوا ملائكة ، أؤمن بأن كل شيء مرهون بشيء ، هذا يريحني، يجعلني لا أغضب ولا أزعل عندما يمقتني أحد او حتى يكرهني او يتخذ موقفاً ، كل بنو آدم يعتريهم التغيير ، وهذه سنة الله فى كونه .

إنني لا أطلب من أحد أن يقدم لي شيئًا لا يقدر عليه ، ولا أن يجاهد نفسه من أجلي ، حتماً لديه أشياء أهم بكثير مني تحتاج لجهاد النفس والعقل ، لكنِ ممتن لكل من أتعب نفسه وكتب كلمة أو اتصل ليقول لي "كل سنة وأنت طيب "، أو حتى من رأى صورتي ونظر اليها بعض الوقت بفرحة أو حتى تعجب ، كل هؤلاء أنا ممتن لهم .

أما مرحلة الوقت الضائع ، فهذه هي المرحلة التالية لمرحلة منتصف العمر ، مرحلة ليس فيها إعجاب شديد ولا حب ملتهب ولا إنجذاب فائق ، مرحلة ربما تجعل زوجتي تهدأ وتطمئن بأنني لست كالسابق الذي يلهث خلف الجميلات ، ولا أنا الشخص الذي يلفت نظر البنات ، ولا حتى الشخص الذي يثير إعجاب السيدات ، كلهن يتعاملن معي إما أباً أو اخأ او زميل أو صديق أو رجل بركة ، فلم يعد لديَّ ما اثديه لهن ، ولم اعد مطمعاً لأحد ، ( ولو واحده جريت ورايا تبقى عملالي عمل ومحدش يفكه ) ، المهم ما تبقى من نفسي هو لنفسي أولاً ثم لبيتي وأسرتي ، وقد قدمت نفسي على بيتي وأسرتي "على غير العادة"، لأن من يحطم نفسه من أجل الأخرين مهما كانت درجة قربهم ، فلن يقدم شيء لغيره .

وبعد كل ما سبق ، فالحقيقة أنني لستُ ممتناً للزمن فى شيء ،نعم الزمن منحني شيء وسلبني أشياء ، فكلما تقدم بي السن اجد الإحترام والهيبة ، لكن هناك ايضاً التجاعيد والتغيرات التي توحي بلفحات الكِبر  والشيخوخة ، ولهذا اكره حفلات عيد الميلاد ، واراها شيء من العبث ، كيف نفرح بسقوط عام من العمر ، عام لا يعوض، ليس لدي تفسير لماذا تفرح الناس في عيد ميلادها ،من الواضح انه اليوم الوحيد الذي يجدون فيه من يهتم بهم او من اجل الهدايا.

مع الوقت يتناقص العمر عام بعد عام ، وأنت فى العشرين لا تشعر بشيء ، تريد ان تكبر وتحقق أحلامك وأمانيك وتصل للثلاثين ، بعد منتصف الثلاثين تشعر بالمأساة الحقيقية ، فليس لديك شقة ولا سيارة ولا زوجة ، وإذا تزوجت فانت فى عالم أخر ، غالباً تغيب الحكمة فى هذا السن ، وضحايا القوة ما أكثرهم  .

ومع الخمسين ، تظهر أشياء تنسف الماضي ، وتحاول ان تبدأ من جديد ، لكن أشد ما تواجهه فى هذه الفترة انك لا تجد العالم المثالي الذي كنت تحلم به ، وتبدأ من جديد في مواجهة المصاعب مع أقرب الناس إليك .

مثلاً: تحاول ان تقنع أولادك بأشياء تعلمتها من تجربة الزمن ولا أحد يسمع ، تحاول أن تنقل تجاربك للأخرين لكهنم  فى وادِ أخر ، لن يقتنع بكلامك ولا بخبرتك إلا من هم في نفس سنك ، وغالباً هؤلاء ليسوا بحاجة لنصائحك ولا كلامك ولا توجيهاتك ، الزمن تكفل بهم .

ثم تبدأ العيش في عالم الاجبار، الخبرة والزمن يجبرونك على عدم الحديث فى أشياء تضرك ، تجبرك على عدم رفع صوتك فى المنزل، تجبرك على الأستغناء عن أشياء تحبها ، الظروف كفيلة انها تخرسك وتقضي على كل ما تحبه ، يعني ليس كل وقت صالح للخروج ، من الممكن ان تصاب بنزلة برد أو ضربة شمس ، وإذا فكرت فى الأكل فلابد وان تحسب ألف حساب للمعدة والقولون والسكر والاملاح وعثر الهضم والتردد على الحمام ليلاً .

اكيد لكل سن حلاوته، لكن له منغصاته ، ومن يراقب حياته من البداية يجدها متساوية ، وأنت صغير كان يرضيك أي شيء ، كنت تأكل من غير خوف ، كنت تفعل دون حساب ، ومع ذلك الحياة كانت ضيقة، وعندما تكبر والدنيا تمنحك ، تجدها تسوق إليك محظورات وتحذيرات ، مثلاً لديك سيارة لكنك تخاف أن تسرع بها ، لديك أموال لكن ليس لديك لذة ان تشتري ما يعجبك وتشتهيه ، المجتمع كله يفتح لك ذراعاته ، لكنك فقدت يا اما الرغبة أو القدرة .

المهم ان المحاذير تظل تلاحقك فى كل مراحل حياتك ، تختلف من سن لأخر ، و من رقيب لأخر ، حياتك تسير في خط واحد ، لا يمكن تجاوزه سواءً كنت صغيراً أو كبيراً ، إذاً ليس هناك مانع أن يذكرك أصدقاءك بتقدم سنك ، وان يعطوك الأمل بأنك مازلت شاب ومرغوب فيك ، لابد أن يمنيك أحدهم بروح الشباب .

وهذا ما يفعله كل الأصدقاء في أعياد الميلاد معي ومع غيري …وكل عام وأنتم بخير ، وألف شكر لكم جميعاً .




تم نسخ الرابط