الأربعاء 27 أغسطس 2025 الموافق 04 ربيع الأول 1447

الناس يتشابهون فى قصص الحزن وأسباب السعادة

26
جيهان الغرباوى
أن ما دفعنى لاشراك القارئ فى الاطلاع على أسرارحياتى ليس الاعجاب الزائد بالنفس ولا الرغبة فىالمباهاة بعمل عظيم قمت به.. بل مجرد الأملفى ان يجد بعض القراء فى صندوق اسرارى ما قديخفف عنهم بعض الأحزان او يزيد من قدرتهمعلى الاستمتاع ببعض بواعث السرور بل حتى اذالم يتحقق هذا النفع ولا ذاك قد تفيده القراءة فىشىء واحد على الاقل.. هو ان يعرف القارئ ان لميكن قد عرف بعد ان الناس اشبه كثيرا بعضهمببعض مما قد يظن سواء فيما يتعرضون له منبواعث السرور او فيما لابد أن يصادفوه بين الحينوالاخر من خيبة الأمل.
هكذا قدم المفكر الراحل جلال امين كتابه الممتعالشهير (ماذا علمتنى الحياة ؟) وقد وجدت اهداءبخط يده على نسخة الكتاب التى عندي؛ فتذكرتوجهه الباسم واسلوبه الودود حتى مع الناسالذين يقابلهم لأول مرة.. واستعدت ذلك الانطباعالطيب الذى تركه فى نفسى وانا اتقدم نحوه بوجلبعد ندوة طويلة كان محاضرا فيها.
واقول له: انا استمتعت واستفدت جدا بحضورتلك المحاضرة واتمنى ان استطيع ان انقل هذهالافكار لقراء الاهرام.. عبر حوار معك - اجاب:يسعدنى ذلك.. بكل سرور.
- سألته: هل اذا اتصلت بك تليفونيا بعد اياملتحديد موعد مقابلة ستتذكرنى؟
- اجاب متصنعا الجدية: فى الحقيقة انا لا اتذكرالاسماء جيدا للاسف.. قولى لى (أنا البنت الحلوةاللى كنت لابسة احمر فى الندوة) سأتذكرك حتما.. ثم ضحك و ضحكت معه... و قد صار كل شئبسيطا وانسانيا ومرحا فى طريق ذلك الحوار تأجلنشر حوارنا مدة طويلة؛ لكن انطباعا بالصداقة دامفى نفسى تجاه ذلك المفكر الكبير الذى كان بقدرما هو شهير و مهم ومؤثر؛ بقدر ما هو بسيطوانسان وقريب للقلب؛ بروح الدعابة وحبهللتواصل مع الشباب و الاستماع الى الناس علىاختلافهم.. أظن انه كان يقرأ مصر من صفحاتالبشر فيها ويعرف احوال البلد من احوال اهلها.. كان رجل اقتصاد مؤمنا بأن الانسان هو كلمة السر؛و هو بطل القصة كلها!
أبى
بعد تخرجى بعامين حصلت على بعثة حكوميةللدراسة فى انجلترا للحصول على الدكتوراه فىالاقتصاد لم تكن هذه المرة الاولى التى اشاهدفيها انجلترا فقد قضيت شهرا قبل ذلك بسبعسنوات (1951) فى زيارة لأخى عبدالحميد الذىكان يحضر الدكتوراه فى لندن ولأختى فاطمة اذكان زوجها يعمل وقتئذن هناك كان الفضل فىهذه الزيارة لابى كان يسيطر على ابى الاعتقادبأهمية تعلم لغة اجنبية فى سن مبكرة؛ اذ لميستطع ان ينسى معاناته فى تعلم الانجليزية علىكبر؛ وتمنى دائما لو كان قد بلغ مستوى اعلى ممابلغه فى اجادتها كان يقول انه قبل تعلمالانجليزية كان كمن له عين واحدة فأصبح له بعدتعلمها عينان!
ثورة
اصبت بأول خيبة امل فى الثورة عندما سمعنا فىمارس 1954 بنشوب خلاف بين رجال الثورةوعزلهم لمحمد نجيب من رئاسة الجمهورية.. كنانعشق محمد نجيب عشقا ففضلا عن ارتباط اسمهبالثورة منذ اول ساعة كان للرجل صفات شخصيةشديدة الجاذبية اذ بدا عليه الاخلاص التاموالنزاهة والتواضع الحقيقى مع ميل واضحللفكاهة دون ان يفقد احترام الناس له.. لازلتاذكر خطبة القاها حسن دوح وكان من قادةالاخوان فى الجامعة وخطيبا موهوبا.. لاحظتمدى قوة تأثير الدين فى المصريين وكيف ان نفسالفكرة التى يمكن ان يقابلها الناس ببرود؛ يمكنان تثير حماسهم بشدة اذا عبر عنها تعبيرا دينيا. وقد انضممت الى اعتصام الطلبة فى داخل قاعةالاحتفالات بجامعة القاهرة مصممين على عدمترك اماكننا حتى يعود محمد نجيب وكنت انوىقضاء الليل معهم .. فإذا بوالدتى.. رأيتها علىسلم قاعة الاحتفالات بشبشبها وطرحتها السوداءوقد راعها ان تسمع بإنضمامى للطلبة الثائرينفقررت ان تأتى على الفور لإخراجى !
عودة
كنت فى طريق عودتى النهائية الى مصر بعدانتهاء بعثتى ومعى زوجتى الانجليزية التىتزوجتها بمجرد حصولى على الدكتوراه فى ابريل1964 وكانت تأتى الى مصر لاول مرة وكل منا فىغاية الاستبشار ببدء حياة جديدة فى مصر التىكنت افتقدها بشدة.. كان سفرنا بالباخرة وكانتباخرة مصرية اسمها (الجزائر).. قضينا علىالباخرة ثلاثة او اربعة ايام كنت خلالها اكاد اطيرفرحا وحماسا كلما سمعت اغانى مصرية وكانمطلع اغنية (قلنا هانبنى وادى احنا بنينا السدالعالى) من اوليات الكلمات العربية التى تعلمتهازوجتى.. فلما وقفت الباخرة فى ميناء الاسكندريةوظننا ان ما علينا الان الا النزول الى ارض مصرفوجئنا بأن المسألة ليست بهذه البساطة فقد رأيناطابورا من الضباط يصعدون الينا فى الباخرةوعلى وجوههم سمات غاية فى الصرامة والتجهمويصطف امامهم المسافرون لكى يقدموا للضباطاوراقهم وجوازاتهم.. لم يخطر ببالى قط ان اكونانا واحدا ممن يترقبون وصوله!
لم يكن هذا هو بالظبط الاستقبال المطلوب لدىعودتى لوطنى بعد بعثة 6 سنوات حصلت فيهاعلى الدكتوراه لكن هذا الاستقبال المهين لم يكنبأية حال اسوأ مما تعرضت له بعد ذلك.
فى لقاء رتبه خالد محى الدين مع شعراوى جمعةبخصوص الاجراءات المتخذة ضدي؛ اثار دهشتىالشديدة واذهلنى ان اسمع ما معناه ان هناك منيقدم تقارير للمباحث العامة حتى عما يقولهاستاذ فى الجامعة.. لا فى مؤتمر سياسى بل فىمقرر عن عن ( تاريخ الفكر الاقتصادى )
قال ان هناك ما يدل على انك فى احدىمحاضراتك فى كلية الاقتصاد سنة 1964 قلت شيئايسئ الى النظام.
زملاء العمل
حقوق عين شمس: زميلى العائد من فرنسا كانرجلا مكتفيا بنفسه يؤمن بقاعدة (عش واتركالاخرين يعيشون) كان ودودا لطيف المعشر ذاشهامة؛ وضع لنفسه هدفا محددا مطلوبالوصول اليه بأقل نفقة ممكنة؛ انه اذن(الاقتصادى) بإمتياز.. لا يضيع وقته فى كلام لافائدة منه كان يعرف قدر المال جيدا لكنه كانقادرا ايضا على الاستمتاع بالحياة.. بالاكل الطيبوالبيت الجميل.. تزوج من فتاة المانية لطيفةهيأت له بيتا مريحا وتركته يسعى لتحقيق اهدافه.
اما زميلى العائد حديثا من الولايات المتحدة فكاننوع مختلف تماما رجل صغير الحجم ليسلجسمه معالم محددة؛ يعتمد فى حديثه علىالكلشيهات من امثال (الحمد لله على السلامة.. وكل سنة وانت طيب.. وربنا يجعل العواقبسليمة ) وهكذا.. واذا عبر عن مشاعره بتلقائيةوهو امر نادر الحدوث فستجد الموضوع غالبايتعلق بكسب مادى يرغب فى تحقيقة او يشكو منضياعه بدون وجه حق.. وقد حصل زميلى هذاعلى اعارة الى احدى الدول العربية وعاد منهابمرسيدس فاخرة وكان منظره وهو يقودها الىداخل جامعة عين شمس يلفت النظر بسببالمفارقة بين ضآلة جسمه حتى لا يستطيع النظرمن الزجاج الامامى وحجم السيارة وفخامتها.
ولكنى كنت الاحظ ايضا انه اذا تصادف ان وصلالى باب الجامعة فى سيارته المرسيدس وانا ورائهفى سيارتى الصغيرة القديمة؛ هب بواب الجامعةواقفا لتحيته وفتح له الباب على مصراعيه ثميجلس مباشرة غير عابئ بى وانا امر من نفسالبوابة ولا يكلف نفسه عناء رفع يده لتحيتى.. وكنت افسر هذا الفارق الواضح فى المعاملةبالفارق الواضح جدا بين السيارتين!
نظرية
لم يكن هذا الاهتمام الزائد بكسب المال ظاهرةاستثنائية.. اذ سرعان ما اكتشفت ان الظاهرةعامة كلما رأيت شخصا يسيطر عليه حب المالقادنى ذلك للبحث فى ظروف نشأته وكلما وجدتشخصا كريما سخيا ومستعد للتضحية بالكسبالمادى من اجل فكرة او مبدأ افترضت على الفورانه لم يصادف حرمانا فى صباه والحقيقة لم اجدفى حياتى امثلة كثيرة تدحض نظريتى هذه؛وصادفت الكثير جدا مما يؤيدها.
المجتمع المصرى ككل مجتمع مكتظ بالسكان لاينتج ما يكفى لتوفير حياة لائقة للجميع فينافسالجميع على الكسب المادى ويحاولون دونجدوى اخفاء هذه المنافسة والتظاهر بعكسها.
المرأة
كان لدى شعور دفين منذ سن مبكر للغاية بأن منالصعب جدا ان تعجب بى فتاة او امرأة.. لا ادرىمن اين جاء هذا الشعور اللعين .. ولكن هاهىوظيفة التدريس تعطينى بعض التعويض وان كانتعويضا بائسا للغاية عما حرمنى منه هذا الشعورتجاه المرأة؛ فكم تلقيت من تعبيرات الاعجابوالتقدير على وجوه تلميذات جميلات فى كلجامعة قمت بالتدريس فيها؛ بإستثناء كليةالشرطة بالطبع حيث كنت لهذا السبب بلا شكاقل اقبالا على التدريس فيها!
ان الاشتغال بالتدريس به شبه بالزواج من امرأةدائمة الشباب الاستاذ قد يستمر فى تدريسالمقرر لتلاميذ من نفس العمر فإذا به يجدد شبابهبإستمرار من اتصاله المستمر بتلاميذ لا يشيخونابدا الميزة المهمة التى يحققها التدريس لى هىالحصول على اعجاب الناس وتقديرهم او بالاحرىالتصويت كل فترة وجيزة على تجديد الثقة بى.
ميتافيزيقا
اذا كانت الميتافيزيقا هو كل ما كان غير محسوس؛فما اكثر الاشياء التى لا تظهر امامنا فى شكل حسىولكن هناك ما يرجح انها بالغة الاثر فى تصرفاتناومعتقداتنا ان الدين رغم انه لا يقوم على التجربةاو الملاحظة قد يكون قوة دافعة لاعمال عظيمةالمسألة ليست اختيار بين العلم والدين وانماهناك علم فاسد وعلم ينفع الناس كما ان هناكتدينا فاسدا وتدينا ينفع الناس (الفهم معناهالصفح ) انى اؤمن بصحة هذا المثل الانجليزىوخيبة الامل لها معنى آخر غير مجرد الفشل فىتحقيق ما نريد.. وهو وياللغرابة ان نحقق بالضبطما نريد!
ما اكثر ما كتبت عن السعى الحثيث لجمع المالالذى ينتهى بصاحبه الى اكتشاف ان كثرة الماللم تجلب له السرور وما كان يظنه.. نفسالملاحظة تنطبق على اشياء كثيرة غير المال.. لكم تمنيت فى مراحل مختلفة من عمرى ان ارىاسمى منشورا او مقترنا بمقال او كتاب منتأليفي؛ وقد حققت هذا مرة بعد المرة؛ حتىاصبحت رؤية اسمى منشورا تكاد تعادل رؤية اسمشخص آخر لا اعرفه .
كتاب جيد زيادة المعلومات كثيرا ما تؤدى الىتقليل الفهم بدلا من زيادته؛ خاصة بطريقة وسائلالاعلام التى تقدم اخبار سريعة غير مترابطةتختلط فيها المعلومات الهامة والضرورية مع غيرالهامة وغير الضرورية وعندما يصبح كل شئ محلاللبيع والشراء يزول اى معيار آخر للتمييز بينالاشياء و الاشخاص ولجورج اورويل قول طريفيعرف فيه الكتاب الجيد: بأنه الكتاب الذى يقوللك ما كنت تعرفه من قبل!
انه اذن ليس الكتاب الذى يضيف الى معلوماتكولكنه الكتاب الذى يدعم فهمك لبعض الاموروينظم هذا الفهم ويزيد من ثقتك بصحته.. بهذهالمعايير التى سجلها جلال امين بمزيد منالتفاصيل المدهشة ؛ يسهل ان نصنف كتاب (ماذا علمتنى الحياة؟ )؛ بأنه كتاب جيد بل وشيقوفكاهى ايضا؛ مع ما احتواه من مضمون سياسىواقتصادى جاد .. لكن اهم ما جاء فيه؛ حسهالانسانى الصادق؛ وقد تستشعر ذلك معي؛ وانتتقرأ له فى النهاية مثل تلك العبارات: لم افقدقدرتى على الابتهاج بل والابتهاج الشديد احياناصحيح ان الامثلة على خيبة الامل كثيرة.. ولكن مااكثر ما نمر به ايضا فى حياتنا من احداث سارة لميكن يخطر ببالنا وقوعها ولو فى اكثر لحظاتناتفاؤلا.. على فراش الموت قال كاتب امريكى : لقدكنت اعرف دائما ان كل انسان لابد ان يموت.. ولكنى كنت آمل دائما ان يحدث استثناء فىحالتى.. ويعجبنى رجلا آخر قال: اعلم ان الموتسيأتى حتما وذلك لا يخيفنى.. لا شئ يؤلم فىذلك.. حينما يحضر الموت لن اكون موجودا !
نقلاً عن الأهرام



تم نسخ الرابط