الأحد 08 ديسمبر 2024 الموافق 07 جمادى الثانية 1446

السيدة التي تسمع ولا ترد

79
المستقبل اليوم

السيدة التي تسمع ولا ترد 

 

عامين على الفراق ، وكأن الأيام تطوي الوقت طيَّ ، عامان وأمي تحت الثرى ، لا وجه يُرى ولا يد تلمس ولا خد يُقبل ولا رجل تمشي ، ولا رائحة تُشم ولا طعم لشيء ، عامان والديار خاوية ، يا دار ما فعلت بك الأيام !!

عامان وصوت أمي خافت خامل ، عامان وانقطع طعامها وشرابها ، حتى أشياءها غابت ، عامان وكل ما أملكه صورة على الجدران وهاتف كانت يدها تلمسه ، عامان والذكرى لم تغب والقلب متعب ، عامان والدنيا ترسل لي كل جنودها ليحاربوا ما تبقى مني .

كنت أتمنى أن لو كانت أمي على قيد الحياة ، أجلس بجوارها في ساعة متأخرة من الليل أو ساعة مبكرةً من النهار وأتحدث إليها حديث الجوى ، بقلب مفتوحاً وافضفض بأشياء لم اتفوه بها من قبل .

كأن أقول لها: وحشتيني يا أمي ، وحشني صوتك ورائحتك ولمسات يدك و وطء اقدامك ، ترين يا أمي كيف كبرت وجرت السنون واشتعل الشيب في رأسي ، ترين يا أمي كيف أصبحت عائل لأسرة وخائفع عليهم كما خوفك علينا سابقاً .

ترين يا أمي كيف أنني اضحيت أفكر فى الأولاد أكثر من نفسي ، ترين يا أمي كيف أنني انظر إلى هواتفهم لأراها مشحونةً عن أخرها وانسى شحن هاتفي ، لا أحب أن يستيقظوا صباحاً فيجدونها فارغة فلا يتمكنون من اللعب …ترين يا أمي كيف أنني امقت تسمرهم بالساعات أمام الشاشات ، ورغم ذلك أبحث لهم عن العاب واستجيب لهم عندما يطلبون شراء أشياء ربما لا تروق لي .


ترين يا أمي كيف أنني اشتري الملابس الداخلية والجوارب ليرتديها أبنائي ، اكون سعيداً عندما يطلب أحدهم ارتداء جورب من جواربي أو فانلة داخلية او سويت شيرت من أشيائي ..ترين كيف أنني ابحث لهم عن كل الأشياء التي تناسبهم فى المتاجر دون أن يلفت نظري شيئ واحد اقتنيه ، وأنا من كنت مسرفاً في ذلك .


ترين يا أمي كيف أنني كبرت لدرجة إنشغالي بتهذيب المنزل وإصلاح أي شيئ فيه حتى لا يواجه أبنائي المتاعب وليعيشوا دون ضجر أو ضجيج ، ترين يا أمي كيف يؤلمني صوت أحدهم بأن الكهرباء انطفأت أو النت قد تباطئ ، ترين يا أمي كيف أكون سعيداً وأنا اراهم يهمسون في آذان بعضهم وضحكاتهم تتعالى عندما يشاهدون فتاة جميلة فى التلفاز أو على شاشة هواتفهم ، لقد كبروا يا أمي رغم صغرهم وأصبحوا يعرفون معنى الجمال ويدركون سحره ويفعلون ما كنت أفعله وأنا شاب .

ترين يا أمي كيف أنني أحاول إسعاد زوجتي قدر المستطاع بعد ما رأيته من مكابدتها فى المنزل وحرصها على تربية الأولاد وخدمتهم والوصول بهم لبر الأمان ..ترين يا أمي كيف أنني أصبحت أحب أم أولادي وأنا من كان لا يبالي بذلك عندما كنتي توصيني وتقولي "مرتك خسارة يا ولدي حافظ عليها".


ترين يا أمي كيف أن نظرتي فى الحياة قد تغيرت ، فلا أهفو لشيئ إلا إذا كان فيه إسعاد لأسرتي ..ترين يا أمي كيف أنني امكث بالمنزل لأيام دون أن اغادره وأنا من كنت تواقاً لأجوب الشوارع ومجالسة الأصدقاء والتواجد على المقاهي .


ترين يا أمي كيف ادركت حب الأخ والأخت وودهم وصلتهم وعدم التسبب في زعلهم ومحاولة إرضاءهم ، إرضاءً لكِ وأنتي من تقولين "أسألك عن أخواتك يا ولدي".


ترين يا أمي كيف أنني أضع صورتك على هاتفي وفي بهو منزلي حتى أدقق النظر اليكِ طويلاً وأنتي بعيدةً عني .


ترين يا أمي كيف أنتي كبرت وأصبحت أناجي روحك وأتحدث معها حديث طويلاً وكأنكِ تجلسين إلى جواري فأبوح لكِ بما لم استطع أن أتفوه به وأنتي على قيد الحياة .

ترين يا أمي كيف أنني كنت إبناً عاقاً عندما لم اغتنم فرصة وجودك على قيد الحياة لأتحدث اليكِ بكل أسراري واحكي كل أوجاعي ..ترين يا أمي كيف أنني إنساناً خائباً عندما لجأت لغيرك فأقصصت عليه حكاياتي .

ترين يا أمي كيف أنني أندم على لحظات عشتها بجوارك ولم أرتمي في حضنك فرحاً أو حزناً من فرط إنشغالي وطيشي ..ترين يا أمي كيف ضاعت الفرصة حتى انني استحضر طيفك فاحكي معه ألف حكاية وحكاية دون أن يرد عليَّ أحد …لكني يا أمي أشعر بأنكِ تسمعينني جيداً وتقولين : إحكي يا ولدي فأنا أسمع حكاياتك لكن لا أرد …رحمك الله يا أمي 

#حكاوي_علام




تم نسخ الرابط