د أحمد هندي يكتب: الأفكار البدائية للنظام التأديبى فى الوظيفة العامة

ألقت حادثة قطار محطة مصر بمنطقة رمسيس بالقاهرة الضوء الساطع على أفتقاد النظام التشريعى التأديبى لألتزامه بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان والمواطن الصادر فى عام ١٧٨٩ .
وأستقراء التطور التشريعى للقوانين واللوائح الوظيفية فى المجال التأديبى نجد أن فكرة تدرج العقوبة التأديبية للمخالفات التى يرتكبها الموظف العام لم تعرف التطوير والتحديث منذ قرن من الزمان حتى آخر تحديث تشريعى قانون الخدمة المدنية رقم ٨١ لسنة ٢٠١٦ !!
لذا كافة التشريعات واللوائح الوظيفية لم تتمكن حتى الآن من الوصول إلى التوفيق والموازنة العادلة بين عنصرى الفاعلية والضمان فى المجال التأديبى ، أى تحقيق التوازن بين المصلحة الوظيفية العامة والمصلحة الخاصة للموظف فى مجال العقاب التأديبي ، وقد ترتب على ذلك إلحاق الضرر الجسيم بحسن سير العمل فى مرافق الدولة العامة .
التأديب ضرورة فى أى مجتمع بشرى ويهدف فى مجال الوظيفة العامة إلى الحفاظ على تماسك الجماعة الوظيفية ، فهو ضرورة لازمة لأنه يحمل فى طياته معانى التهذيب الأخلاقى وردع الأعمال المخلة وإعادة النظام والأستقرار داخل الجماعة الوظيفية .
وينطوى الفعل المحرك للعقاب التأديبى على معنى الإخلال بالواجبات الوظيفية وخرقها سواء تم ارتكابه فى داخل المجتمع الوظيفى أم أمتد إلى المجتمع كله ، لذا الأفعال المحركة للتأديب لا تندرج تحت حصر ، والتطبيق التشريعى واللائحى للمخالفات والعقوبات التأديبية تختلف بأختلاف الأشخاص والمراكز الطبقية الوظيفية ، بالرغم من توافر نفس الظروف والملابسات المتعلقة بوحدة نوع المخالفة المرتكبة ودرجة جسامتها ، وما يقترن بها من ظروف مخففة أو مشددة ، فتجد توقيع العقوبة التأديبية يميز بين الأفراد بسبب أختلاف مواقعهم فى درجة السلم الوظيفى . مثال ، عقوبة الخصم من المرتب يختلف مداها وأثرها الضار بالنسبة للدرجة الوظيفية ، فهى لا تطبق على شاغلى وظائف الإدارة العليا بل تنحصر عقوبتهم التأديبية ما بين التنبية واللوم كعقوبة أدبية ، والاحالة للمعاش والعزل وهما عقوبتين نادرا ما تسمع بتطبيقهما ألا بموجب حكم قضائي لا بموجب السلطة التأديبية المختصة .
وتطبق عقوبة الخصم على شاغلى الوظائف الدنيا فى السلم الإدارى ويتجاوز تعدادها ستة أنواع مختلفة من العقوبات ، على الرغم من التساوى فى مدى المسئولية وظروف ارتكاب المخالفة التأديبية ، وهى فكرة مستهجنة تسمى بطبقية العقوبة ولا يوجد مبرر حقيقى لذلك سوى المحاباة لشاغلى وظائف الإدارة العليا .
والجدير بالتطبيق العدلى لفكرة التأديب أنه يجب تشديد المسئولية على ما يرتكبه كبار الموظفين لأنهم أصحاب التجربة والحنكة الواسعتين وصاحب التاريخ الطويل فى العمل ، ويتعين النظر إليه بعين التشديد .
أما الموظف حديث التجربة بالخدمة والذى تنقصه الخبرة والممارسة العملية وهو مايبرر عدم تطبيق عقوبة الخصم من المرتب عليه ، عكس التطبيق المقلوب .. ومن أمن العقاب المالى أساء إستخدامه فى حق صغار الموظفين ، لذلك تدور عملية الإصلاح الإدارى فى حلقات مفرغة ، لأن العقلية التشريعية الوظيفية مازالت تعيش فى سجل التاريخ الخرافى للمحاكمات والعقوبات كما كانت تطبقه المحاكم الأوروبية فى العصور الوسطى ، مثال محاكمة الخنازير فى فرنسا عام ١٣٥٦ ، ومحاكمة الذئاب فى زيورخ ١٤٤٢ ، ومحاكمة الخيل فى فرنسا فى عام ١٦٣٩ ، ومحاكمة الجرذان والحشرات والدببة والكلاب والقطط فى الغابة السوداء بألمانيا ، وامتداد الأفكار البدائية للنظام التأديبي ٢٥٠ سنة تأديب لا يعرف المساواة ، فالتأديب حق يستقضى لا سلطة تستأدى !!