الأربعاء 24 ديسمبر 2025 الموافق 04 رجب 1447

د. جمال القليوبي يكتب: فنزويلا دولة نفطية خارج الوصاية الأمريكية

96
المستقبل اليوم

تناولت وكالات الأنباء والصحف العالمية كثيرًا من الأخبار عن الحصار الأمريكي العسكري والاقتصادي والسياسي على حكومة مادورو في كراكاس، والذي تحوّل في ليلة وضحاها من حرب غير ظاهرة إلى حصار وعقوبات وتهديدات واضحة، دون سياق قانوني أو إطار دولي، سواء تشرف عليه الأمم المتحدة أو يُغلَّف بقانون دولي.

ويبدو أن الرئيس الأمريكي تلقّى ملفًا إخباريًا استخباراتيًا يبيّن أن القدرة الاقتصادية لحكومة فنزويلا ما زالت قوية رغم العقوبات الاقتصادية التي تعانيها منذ ولاية شافيز مرورًا بمادورو، حيث طبّقت أمريكا وأوروبا وكندا، على مدار أكثر من 30 عامًا، العديد من إجراءات تجميد الأصول المالية ومنع التعامل معها في الأسواق المالية الدولية، وذهبت إلى حظر المعاملات المالية مع الحكومات الفنزويلية وشركائها، وخصوصًا في قطاع النفط والشركات المشتركة مع الحكومة.

ولكن أريد هنا أن أعلّق على الأسباب الظاهرة التي أعلنتها أمريكا وتبعها الأوروبيون والكنديون، حيث اعتبرت تلك الدول أن الانتخابات في فنزويلا غير حرة وليست نزيهة، وأن هناك قمعًا للمعارضة السياسية، بالإضافة إلى اتهامات بارتكاب مخالفات بحقوق الإنسان ضد معارضين سياسيين، وهو ما اعتبروه قمعًا للمعارضة السياسية. والأهم من كل تلك الأسباب، السبب الذي تعلّق عليه الولايات المتحدة الضرر الواقع عليها، وهو مرتبط بالأمن الدولي، حيث يتهم ترامب حكومة كراكاس بدعم شبكات غير قانونية لتهريب المخدرات وتصدير الإرهاب إلى أمريكا.

لكن هناك سببًا جديدًا أعلنه الرئيس الأمريكي ترامب خلال تصريحاته الإعلامية، يتعلق بحقوق الشركات الأمريكية التي كانت تعمل في إنتاج النفط الفنزويلي ولم تحصل على مستحقاتها بعد أن طُردت من استثماراتها (إكسون موبيل وشيفرون)، وتم تأميم أصول تلك الشركات في الشركة الوطنية الفنزويلية PDVSA، التي تسيطر على معظم الحقول النفطية حتى وقتنا الحالي.

ومنذ أكثر من نصف قرن، عانت البنية التحتية النفطية، التي أصبحت متهالكة نتيجة تطبيق العقوبات الاقتصادية والنفطية على فنزويلا، والتي حرمتها من نقل التكنولوجيا ووقف عمل شركات تكنولوجيا وخدمات النفط فيها، مما أدى إلى نقص شديد في قدرات الإنتاج اليومي، الذي كانت تحظى به فنزويلا في عام 2005 بإنتاج وصل إلى 3 ملايين برميل يوميًا، ليتراجع إلى مستويات لا تتعدى 750 ألف برميل يوميًا.

وخلال فترات العقوبات الغربية والأوروبية، اتجه شافيز ومن خلفه مادورو إلى التعاقد على “حاويات الظل النفطية”، وهي سفن تم تحويلها من شحن البضائع إلى حاويات تحمل خزانات للنفط وحاويات بضائع فارغة، تستطيع التخفي ذهابًا وإيابًا إلى البرازيل والصين والهند عبر المحيط الأطلسي. كما حوّل النظام الحاكم في فنزويلا بيع النفط إلى تبادل سلع تجارية، واعتمد في الاستثمارات الجديدة في عمليات حفر الآبار والإنتاج في الحقول على الدعم الصيني، الذي ضخ استثمارات بترولية تهدف إلى تغيير كامل في معامل التكرير والبتروكيماويات.

وذهب أيضًا نظام كراكاس إلى دعم جيشه بالتسلح الروسي، المدعوم بتبادل النفط مقابل السلاح. وحديثًا، أرادت كراكاس أن تنتهج نهج البرازيل والمكسيك في الدخول إلى نظام “بريكس” الصيني-الروسي، والذي يهدف إلى كسر هيمنة الدولار، العامل الرئيسي في الرأسمالية الأمريكية.

ومن هنا، أرادت الولايات المتحدة أن توقف جماح حكومة مادورو التي تعاديها، تخوفًا من التغيير الذي قد تُحدثه كراكاس في أمريكا اللاتينية إذا استمرت فنزويلا في نقل النفوذ الصيني والروسي إليها، بل وتخشى أن تحذو حذوها دول أخرى في أمريكا اللاتينية، بما يهدد أمنها الاقتصادي بدخول “بريكس” إلى تلك الدول.

ولذا ذهبت أمريكا إلى إعلان ظاهري، وهو محاربة المخدرات والإرهاب القادم من فنزويلا، وفرضت حصارًا باردًا عليها، سواء حصارًا عسكريًا على حركة النقل البحري لدى الموانئ الفنزويلية، أو ضغطًا اقتصاديًا وسياسيًا على حكومة مادورو للتنحي.

وتحوّلت فنزويلا إلى مقاومة داخلية تبحث عن سبيل لمواجهة الحصار الأمريكي، الذي لا يستند إلى قواعد أو قوانين دولية، بل يحمل في طياته إحساس القوة في بسط نفوذها على الضعيف، الذي يقاوم من أجل حريته وتحرير سياسته من التبعية، والتي تراها الولايات المتحدة عصيانًا ومعاداة للبيت الأبيض. ولكن يبقى مادورو مصرًّا على تصدير النفط في الظلام، حفاظًا على مصدر الدعم الاقتصادي، وسعيًا وراء الخلاص من ظلم الأقوياء.

وإلى تكملة قادمة.




تم نسخ الرابط