وائل عطية يكتب: من لوك أويل إلى مداد… العبور الآمن من إدارة الأزمة إلى اقتناص الفرص
لم تعد تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية مجرد عناوين سياسية معتادة، بل تحولت إلى واقع اقتصادي يعيد تشكيل ملكية أصول الطاقة العالمية، وهو ما تجلى بوضوح مع دخول شركة مداد للطاقة السعودية سباقاً دولياً للاستحواذ على الأصول الخارجية لعملاق النفط الروسي لوك أويل التي تقدر قيمة أصولها المستهدفة بنحو 22 مليار دولار.
هذا الاستحواذ لا يمثل مجرد صفقة ضخمة، بل يعكس تحولاً جيواستراتيجياً في كيفية إدارة إمدادات الطاقة العالمية تحت ضغط العقوبات، حيث أصبحت الأصول الروسية المرفوضة سياسياً بالنسبة للغرب، فرصاً ذهبية لقوى إقليمية صاعدة تمتلك الملاءة المالية والقدرة على المناورة الدبلوماسية.
ويكتسب العرض السعودي أهميته الاستثنائية من قدرة الرياض على اللعب في مساحة التوازنات الدقيقة، فالمملكة تمتلك علاقات متوازنة تسمح لها بالتفاوض مع موسكو، وفي الوقت ذاته تحظى بقبول ضمني من واشنطن التي أعطت الضوء الأخضر لبدء مفاوضات بيع أصول لوك أويل الخارجية.
تأتي هذه الموافقة الأمريكية البرجماتية في إطار مساعي البيت الأبيض للحفاظ على استقرار أسواق الطاقة ومنع حدوث عجز في المعروض، مع ضمان حرمان الخزينة الروسية من عوائد هذه الأصول مستقبلاً، وهو ما يجعل الصفقة بمثابة عملية نقل ملكية تخدم مصالح جميع الأطراف: خروج آمن للروس، وضمان استمرار تدفقات البترول والغاز للغرب، وتوسع استراتيجي للسعودية.
هذا الحراك الاستثماري يأتي وسط مشهد عالمي مليء بالمفارقات، فبخلاف التوقعات التي تنبأت بانهيار الأسواق فقد أظهر قطاع الطاقة مرونة عالية عبر إعادة توجيه البوصلات... حيث نجحت روسيا في خلق سوق موازي لتصدير البترول بأسعار مخفضة لآسيا، بينما عوض الإنتاج الأمريكي المتزايد العجز في أوروبا. ومع ذلك، فإن هذه الأسعار المخفضة تخفي تآكلاً هيكلياً في قدرات الشركات الروسية المحرومة من التكنولوجيا الغربية ومرونة التمويل والتحويلات النقدية، مما يدفعها قسراً للتخارج من أصول استراتيجية حول العالم، بدءاً من مصانع التكرير في أوروبا وصولاً إلى حقول البترول في الشرق الأوسط، لتتحول تلك الاستثمارات إلى ساحة تنافس بين شركات البترول الكبرى وصناديق الاستثمار.
وفي قلب هذا التنافس الدولي، تبرز مصر كساحة رئيسية ونافذة استراتيجية محتملة، إذ تشمل محفظة لوك أويل المعروضة للبيع أصولاً مصرية حيوية، أبرزها الشراكة في مناطق عش الملاحة للبترول وامتياز وادي السهل. انتقال هذه الأصول من الملكية الروسية المحاصرة بالعقوبات وصعوبات تحويل الأموال، إلى مستثمر سعودي أو دولي يمتلك السيولة والقدرة الفنية، قد يمثل دفعة لتنمية هذه المناطق. فدخول لاعب بحجم مداد أو غيرها يعني ضخ استثمارات جديدة، وتسريع عمليات التنمية في الحقول المتقادمة، وربما توسيع نطاق الاستكشاف في مناطق واعدة.
وبنظرة مستقبلية، فإن المشهد لا يتوقف عند حدود تغيير الملكية، بل ينذر بتحولات أعمق في هيكل السوق، فعلى المدى المتوسط سيؤدي خروج الشركات الروسية من المشهد الدولي وتقليص استثماراتها في تكنولوجيا البترول والغاز إلى تراجع المعروض العالمي تدريجياً، مما يمهد الطريق لعودة دورة ارتفاع الأسعار بمجرد تعافي الاقتصاد العالمي. وهنا تكمن الفرصة المزدوجة لمصر: فمن جهة، ستتمكن القاهرة من تعزيز أمنها الطاقي عبر جذب مستثمرين جدد، ومن جهة أخرى، ستتمكن من استغلال بنيتها التحتية للغاز لتكون مركزاً إقليمياً أكثر فاعلية، خاصة إذا تزامنت الاستحواذات الجديدة مع خطط لتطوير الربط الإقليمي مع دول الجوار.
صفقة لوك أويل المحتملة ليست مجرد خبر اقتصادي، بل هي إعلان عن نهاية حقبة وبدء أخرى. حقبة تتراجع فيها هيمنة شركات الطاقة التقليدية الروسية لصالح لاعبين جدد من الشرق الأوسط وآسيا. وبالنسبة لمصر، فإن هذه اللحظة تتطلب يقظة استراتيجية لتحويل هذا التغيير في الملكية إلى فرصة لتنشيط قطاع الطاقة الوطني، وضمان أن يؤدي المستثمر القادم -سواء كان سعودياً أو غير ذلك- دوراً فاعلاً في زيادة الإنتاج المحلي، بدلاً من الاكتفاء بإدارة الأصول القائمة، وذلك لضمان عبور آمن من مرحلة إدارة الأزمة إلى مرحلة اقتناص الفرص.