أحمد البري يكتب: FOMO الاضطراب الذي أصابنا وأصاب ثلث سكان الكوكب (الأخير)

السطور التالية تتضمن قصة قصيرة أحاول فيها تبسيط وتوضيح كيف تتفاعل كيمياء أدمغتنا مع الاستخدام المفرط للإنترنت والشاشات الزرقاء.
شاب في عمر المراهقة “16 عام” يدرس في مرحلة الثانوية العامة، وعده والداه أنه في حالة تفوقه وحصوله على مجموع مرتفع سوف يتم مكافأته باحتفال منزلي وتسليمه هدية عبارة عن هاتف ذكي مزود بباقة إنترنت، ولنسمي هذا الشاب “حبيب” أو نسميها “حبيبة” لأن جنس بطل القصة لن يؤثر في مجرى الأحداث.
عندما استمع حبيب إلى حديث والديه عن المكافآت الموعودة، أطلق مخ الشاب هرمون يسمى “الدوبامين” وهو يعرف أيضًا بهرمون الحافز أو الشغف، وهذا الهرمون هو الذي يحفزنا للقيام ببعض الأعمال التي تعتبر استثنائية وأحيانًا طويلة المدى، وللعلم فإن وجود نقص أو خلل في هذا الهرمون قد يدفع الإنسان إلى حالة من البلادة وعدم الرغبة في القيام بأي فعل مهما بلغت أهميته.
بدأ حبيب في المذاكرة الجادة واجتاز الاختبارات بتفوق وحان موعد المكافأة.
عاد حبيب إلى المنزل فوجد والدته قد أعدت له وجبة من طعامه المفضل، وقاموا بعمل الاحتفالية وأهداه والده المكافأة التي وعده بها وهي الهاتف الذكي.
عند هذه اللحظة “المكافأة” يصل الدوبامين إلى أرضه الموعودة ومحطته النهائية وهي هرمون لطيف يسمى “السيروتونين”، ويعرف أيضًا بهرمون المكافأة. والسيروتونين أحد أهم النواقل العصبية المسؤولة عن الصحة المزاجية ومستوى السعادة التي يشعر بها الإنسان عند قيامه بإنجاز عمل ما. نلاحظ هنا أن الدوبامين والسيروتونين قد أخذا مسارًا بطيئًا منذ بدأ دراسة حبيب وصولًا إلى مكافأته على التفوق، وهو مسار متوازن دون إفراط.
نأتي هنا إلى الأحداث الدرامية من القصة
أغلق حبيب باب حجرته وبدأ في استخدام هاتفه، بدافع الفضول المحفز للاستكشاف. بدأ حبيب في تصفح الفيس بوك (هنا يتم إطلاق الدوبامين في الدماغ)، وقضى الساعات يستكشف هذا العالم الجديد ودماغه تنتج السيروتونين احتفالًا بهذا العالم غير المعتاد. وبعد ذلك بدأ الشاب في تصفح التيك توك، ودماغه تكرر نفس العملية السابقة وتطلق مزيدًا من الهرمونات المزاجية. وقاده الفضول أيضًا إلى تصفح المواد الإباحية، وهنا أطلق مخه المزيد من النواقل العصبية. وختم الشاب ليلته بتجربة لعبة فيديو جيم جعلت هرمونات دماغه تطير إلى مستويات قياسية لم يعتدها الفتى، ثم خلد إلى النوم مثقلاً بقدر من السعادة واللذة التي لم يجربها من قبل، متمنيًا أن يأتي الصباح سريعًا لإعادة تجربة تلك الحالة الاستثنائية من المتعة.
مرت الأيام والأشهر وهو على تلك الحالة، منعزلًا عن أسرته قابعًا داخل كهفه الرقمي. قرر الأبوان على إثر ذلك أن يمنعاه من استخدام هاتفه المحمول، فهاج حبيب وماج واكتئب وصارت عزلته أشد وطأة من الفترة السابقة. وما لم يكن يعلمه الأبوان ولا حبيب نفسه أن الأدمغة البشرية – مثلما قلنا من قبل – مصممة على مبدأ التوازن، بمعنى أنه كلما زادت النشوة المرتبطة بسلوك ما كلما زاد الألم الناتج عن ترك ذلك السلوك.
وأحد التفسيرات العلمية لمفهوم اللذة والألم وعلاقتهما بالفطرة السليمة هو أن مراكز إنتاج مشاعر الألم في الدماغ تسير جنبًا إلى جنب مع مراكز إنتاج مشاعر السعادة. فإن أفرط الإنسان في استجلاب محفزات السعادة عاقبته الدماغ بالإفراط في مشاعر الألم، وهذا هو منبع أزمة الإدمان.
على سبيل المثال، شخص ما يقرر تجربة التدخين، يشعل السيجارة، ينفث دخانها، يسري النيكوتين إلى الدماغ، ينتشي الجسد ويسجل المخ أنه يوجد هنا مصدر للسعادة. يتأخر الشخص في تجربة السيجارة الثانية، فتبدأ مراكز الألم في إطلاق صافرات الإنذار متمثلة في مشاعر قلق وتوتر وضيق، وكلما توغل هذا الشخص في طريق التدخين كلما كثرت رسائل الألم.
وهناك كتاب مميز في شرح ما ذكر بخصوص اللذة والألم اسمه أمة الدوبامين (العثور على التوازن في عصر الانغماس المفرط) للكاتبة آنا ليمبيكي، وهي كاتبة وطبيبة نفسية أمريكية.
وكتب عنه د. علي بن تميم على منصة (إكس) نبذة مختصرة ذات فائدة نصها التالي:
تروي آنا ليمبيكي، في كتابها الصادر في أغسطس 2021، قصة التأثير الفيزيائي والنفسي لهذا الهرمون في حياتنا بأبعاد مختلفة، وتصدمنا بوجود نظام اقتصادي عالمي قائم على “الدوبامين” وأنواع مستحدثة من الإدمان لا نعرفها رغم أننا عرضة لها في حياتنا اليومية. تفكك آنا ليمبيكي، أستاذة الطب النفسي والإدمان في كلية الطب بجامعة ستانفورد الأميركية، ألغاز هرمون الدوبامين الذي اكتشف عام 1957، وتقارب تعقيداته من خلال سرد قصص حقيقية عن “الاستهلاك القهري” لأنواع تقليدية ومستحدثة من الإدمان عانى أصحابها لسنوات طويلة قبل التعافي منها. الكتاب يستند إلى قصص واقعية عاشها أناس وجدوا أنفسهم محاصرين بمنتجات “السعادة المفرطة” فلجأوا إليها هربًا من الألم. ويروي الكتاب حكاية ميزان اللذة والألم عند البشر، فتقرأ فيه ماذا يحدث عندما تميل إحدى كفتيه، وبين السطور تتلمس أدوات يوظفها أرباب السياسات الاستهلاكية حول العالم للتحكم بحاجتنا إلى هذين النقيضين “اللذة والألم”، فيغرقون الأسواق بسلع ومنتجات “السعادة المفرطة” ثم يرمون لنا طوق نجاة مصنوعًا من أدوية معالجة الإدمان. تقول المؤلفة إن الحالة الهستيرية الناتجة عن التنقل بين النقيضين يوميًا تسيطر على الإنسان حين يدمن منتجًا دوائيًا أو تقنيًا أو دراسيًا أو علميًا أو ترفيهيًا أو غيره، وإلى حين اكتشاف هذا الإدمان ومواجهة نفسك بأسبابه وحاجتك إلى التخلص منه، ستبقى تدور في حلقة مفرغة لسنوات تأكل من جسدك وتقتات على فرصك في الاستقرار.
الخاتمة
قبل قرابة الأربعة قرون رست سفينة على متنها مجموعة من المستعمرين على شاطئ جزيرة لم يصل إليها غرباء قبلهم، وكان أهل الجزيرة النائية ما زالوا يعيشون في طور البداءة ولم يعلموا عن المدنية أو الحضارة شيئًا. ترك بعض أدهياء الغزاة صناديق من البنادق وأضعافها من صناديق البارود داخل الجزيرة ومضوا إلى حال سبيلهم يجوبون البحار، وعادوا بعد مضي عدة أشهر ليجدوا أغلب سكان الجزيرة قد قتلوا بعضهم البعض مستخدمين الأسلحة المتروكة سلفًا، وتبقى القليل من التعساء الذين أمكن إخضاعهم من الغزاة دون مقاومة تُذكر.
قد تكون القصة غير حقيقية لكن المغزى واضح، وهو أن أي منجز حضاري لو تم استخدامه دون وعي ستكون الأضرار أكثر من المنافع. واختزال التكنولوجيا والاتصالات في شكل شيطان رجيم أو ملاك رحيم هو اختزال في غير محله، فالمرجع الأول والأخير في تقييم الفائدة والضرر هو الإنسان الذي يتعامل مع أدوات التكنولوجيا. إن ابتغى علمًا نافعًا سيجده، وإن ابتغى ضياع وقته وعمره فلن ترفض التكنولوجيا له طلبًا.
ترك الشاشات الزرقاء في أيدي صغار السن والمراهقين دون وجود رقابة أبوية هو خطأ يتحمله الكبار قبل الصغار، ويكفي الذهاب إلى متصفح البحث (جوجل) وكتابة جملة “برامج الرقابة الأبوية”، وستجد العشرات من البرامج التي يمكن تحميلها على أجهزة القُصر المسؤولون منا. والأهم من تلك البرمجيات هو خلق الرقابة الذاتية لدى المراهقين وتوعيتهم بأهمية الخصوصية والصواب والخطأ.
وبالنسبة لنا عزيزي القارئ، نحمل مسؤولية مضاعفة، مسؤولية أنفسنا ومسؤولية الأعوام التي نحملها على ظهورنا. فمن آفات الكبر أننا نمثل مرآة السلوك والأخلاق لمن هم في عمر الصغر. فلنحاول جميعًا أن نكون رقباء على أنفسنا قدوة لذوينا، وكلما مالت كفة الميزان نحو الإفراط في تجرع تلك الشاشات أقمنا الوزن بالقسط في كفته الأخرى ونحّينا تلك الشاشات جانبًا حتى نشفى.
والسلام.