التاريخ الغامض لمديري مكتب وزراء البترول (2)

جاء المهندس كريم بدوي وزيرًا في مفاجأة من العيار الثقيل لكافة قيادات وعاملي قطاع البترول. لم يكن اسمه مطروحًا على الساحة، ولا هو بالشخصية المعروفة لدى أغلب العاملين بالقطاع، فقد كان وجهًا جديدًا تمامًا، لا يُعرف عنه سوى كونه مديرًا ناجحًا في إحدى شركات الخدمات البترولية الدولية ذائعة الصيت والشهرة.
دخل الوزارة ليجد القطاع كله، بمختلف هيئاته وشركاته، في حالة استنفار شديد، بسبب أو بدون سبب، مع تراجع في معدلات الإنتاج، وتراكم الديون، كانت فترة المهندس طارق الملا طويلة، وخلقت طوال بقائه على كرسي الوزارة تيارات متعارضة ومتباينة بينه وبين بعض القيادات، فضلًا عن القاعدة العريضة من العاملين.
وجد المهندس كريم بدوي نفسه وسط هذه الأجواء المشحونة، إلى جانب ما يحمله من تكليفات صعبة وثقيلة تجاه الإنتاج والاستثمار في القطاع. واجه عاصفة من المطالبات بالتغيير، وبإبعاد كل من ينتمي إلى الدائرة الضيقة للوزير السابق، ربما بدوافع الملل أو الانتقام. لم يكن على دراية متعمقة بدولاب العمل الإداري والإعلامي في ديوان الوزارة، وكانت الاستجابة لهذه المطالبات، والسير مع توترات الأعصاب المشدودة، نوعًا من استدعاء الارتباك والفوضى في الوزارة، بما ينذر بخلق فجوة في السيطرة على شركات القطاع وإرباك نظام العمل.
وبالفعل، تعامل مع هذا الوضع بهدوء يُحسد عليه، واتجه إلى مهادنة قيادات الدولة العميقة في البترول، فلم يكن هناك خيار آخر لتجنب شبح الفوضى. تعرض للهجوم، لكنه استمر في السير على الطريق الطويل، بل وأرسل لمن حوله رسائل طمأنة بأنه لم يأتِ لتصفية الحسابات، وأن الجميع باقون في مواقعهم. لكن المثير أن رجالات النظام القديم كانوا ينظرون إليه بعيون حائرة، وقد انطفأت لمعة الحماس في أعينهم، وهو ما كان ظاهرًا في اجتماعات الوزير معهم، وفي زياراته الميدانية العديدة إلى المواقع والشركات، التي كان يرافقونه فيها، وكأن لسان حالهم يقول: “إنه الهدوء الذي يسبق العاصفة”.
اتخذ الوزير مسارًا آخر مهمًا في تهدئة الرأي العام البترولي، من خلال النزول إلى العمال والقيادات في المواقع والمصانع والورش، مرتديًا الزي التقليدي لعمال البترول، ليستمع إلى “الصوت الآخر” الذي طالما جرى إهماله. هذا التوجه أزال جدار الحذر والتوجس بينه وبين السواد الأعظم من العاملين، واكتسب ثقتهم بالإفراج عن بعض المطالبات المجمّدة منذ سنوات طويلة، مع الوعد بدراسة جميع مشاكلهم التاريخية المعروفة.
كان لتأمين تلك الجبهة العريضة أثر مؤثر ذو أبعاد إيجابية في إعادة الهدوء إلى مختلف المواقع والشركات، ليتفرغ بعدها لجهود دبلوماسية مكثفة لإعادة الثقة مع الشركاء الأجانب، والعمل التشريعي المضني لتطوير هيئة الثروة المعدنية العتيقة. استمر هذا الوضع لشهور، لم يحدث خلالها أي تغيير في رجالات الوزير السابق المحيطين به، وإن كان قد بدأ خطوة مهمة في غرس بذور التجديد بحركة تعيين كبيرة للمعاونين في مختلف أنحاء القطاع.
وبدا في لحظة ما أن الوقت قد حان لإحداث التغيير المرحلي، وافتتحت هذه المرحلة بإنهاء تكليف حسنين محمد كمدير لمكتب الوزير، وعودته رئيسًا لإحدى الشركات في القطاع الاستثماري، ثم إنهاء تكليف علاء البطل من رئاسة الهيئة، وجاءت الخطوة الكبرى بإنهاء خدمة الأستاذ حمدي عبد العزيز كمتحدث إعلامي تاريخي لوزارة البترول. هكذا بدأت خطوات التخلص التدريجي من رجالات طارق الملا المقربين وأعضاء دائرته الضيقة، وتعيين المهندس معتز عاطف لتولي مسئولية المتحدث الإعلامي والمكتب الفني ومدير مكتب الوزير، في سابقة لم تحدث في قطاع البترول من قبل.
كان لتأمين الرأي العام البترولي أثره في عدم مواجهة هذه القرارات بانتقادات حادة، وإن كانت التكليفات الخاصة بالإعلام وإدارة المكتب قد أثارت شكوكًا وتوجسًا لدى المتخصصين والإعلاميين، لكونها تركز مهام ثقيلة وحساسة في يد شخصية واحدة غير معروفة بخبرتها السياسية أو الإعلامية. كانت معايير الاختيار غير واضحة، لكن يبدو أن الثقة والمعرفة المسبقة، كون معتز عاطف من العاملين السابقين في إحدى شركات البترول الدولية الكبرى، كانت الرابط الرئيسي بينه وبين الوزير.
وبدأ معتز عاطف مهمته في الوزارة، ليستكمل حملة تكريم والاستغناء عن رجالات طارق الملا في أرجاء الوزارة، من خبراء السلامة والقانونية والأمن والمالية والنقل والتوزيع، حتى فرغ ديوان عام الوزارة تقريبًا من كل رجالات طارق الملا. وبدأ رحلته كمدير للمكتب ومتحدث إعلامي ومسئول المكتب الفني وخلافه ، وهي رحلة عامرة بالأحداث والمتغيرات الحادة، نستكملها في الحلقة القادمة.
المستقبل البترولي