على مصطبة الأستاذ عطية…ولدت حكايتي مع بليغ

لم أكن أعلم يومًا أنني سأكون أسيرًا لألحان بليغ حمدي، وأنا الذي تذوقت ألحانه قبل أن أعرف اسمه أو وصفه أو تشبيهه أو أتعرف على صورته أو أدرك حجم العبقرية التي يحملها. كنت أسمع شدو نجاة وميادة وهاني شاكر وعبدالحليم وأم كلثوم، فأقع في سحر الألحان قبل أن أفتن بالأداء.
وأنا صغير، لا أتجاوز العاشرة، كنت أجلس أمام بيت الأستاذ عطية حامد طنطاوي، مدير السجل المدني في قريتنا “بني محمديات”. هناك، على مصطبته، تعلمت أول دروس الفن؛ ليس درسًا في الغناء، بل في الإصغاء. كان الأستاذ عطية يفتح الكاسيت الكبير، ويجلس بعد غدائه وشيشته، ليغرق في عوالم شادية ونجاة ووردة وميادة، بينما أجلس أنا في الخارج، طفلًا يلتقط الألحان كما يلتقط العصفور فتات الخبز، وأحفظها في قلبي قبل عقلي.
كانت تلك المصطبة بالنسبة لي مسرحًا سحريًا، أسمع فيه ما لا أفهم، وأتذوق فيه حلاوة لم أعرف من أين تأتي ولا كيف وُجدت، لكني شعرت بها تسري في دمي. لم أكن أعلم يومها أن وراء هذا السحر رجلًا اسمه بليغ حمدي، يزرع الفرح والحنين في قلوب الناس بعوده وعبقريته.
أتذكر أن أمي – رحمها الله – اشترت لي دراجة رغم رفض أبي خوفًا عليّ، وكنت أتنقل بها في القرية وكأنني أمتلك “فيراري”. كلما مررت ببيت الأستاذ عطية، أركنها وأجلس أستمع، كأن الموسيقى تناديني من خلف النوافذ، ومن يومها حفظت معظم أغاني عبدالحليم ونجاة وميادة ووردة، دون أن أدرك أن هناك شاعرًا يكتب، وملحنًا يصنع، وموزعًا يرتب، وفرقة تعزف…كنت أظن أن المغني هو من يفعل كل شيء!
أذكر يومًا أن أستاذ الأدب سيد عمار سألنا في الفصل عن معنى “القد المياس”، فلم يعرف أحد. التفت إليّ مازحًا وقال: وأنت يا عاشق عبدالحليم، ألا تعرف؟
قلت ببراءة: “يعني الجسم الحلو!”
ضحك، ثم شرح المعنى، ومن يومها أيقنت أن الفن ليس سماعًا فقط، بل فهمًا وشعورًا ومعايشة.
مرت السنوات، وغادرت إلى القاهرة، تخرجت وعملت بالصحافة، وكان لي شرف العمل في قسم الفن بجريدة “الميدان”. وهناك تعرفت على الشاعر الكبير محمد حمزة، الذي صار لي أباً روحياً، كنت أحكي له عن ذكرياتي مع الأغاني وعن مصطبة الأستاذ عطية، فضحك وقال لي: يا ولدي، كل هؤلاء الذين أحببتهم صنعتهم عبقرية واحدة…اسمها بليغ حمدي.
يومها فقط أدركت أن بليغ كان الحاضر الغائب في كل لحظات الطرب التي عشتها، هو اليد الساحرة التي لحنّت “سيرة الحب” و”زي الهوى” و”أنا بعشقك” و”العيون السود”. هو الذي أعطى لعبدالحليم “عدى النهار” و”موعود” و”مداح القمر”، ولأم كلثوم “ألف ليلة وليلة” و”فات الميعاد”، ولوردة “بودعك” و”حكايتي مع الزمان”، ولشادية “قولوا لعين الشمس” و”يا حبيبتي يا مصر”، ولنجاة “أنا بستناك” و”الطير المسافر”، ومنح ميادة “أنا بعشقك”… وألحان أخرى لا تموت.
ومنذ ذلك اليوم صرت أتعرف على ألحانه من أول نغمة، كأن قلبي صار يملك بصمة خاصة لا تنبض إلا على إيقاعه، أدركت بالفعل أن رحيله، هو رحيل للفن ، و أن الفن كله انكسر بعده ، وأن الموسيقى التي أحببتها أغلقت أبوابها ورحلت معه. نجاة صمتت، ميادة صمتت، شادية صمتت ثم رحلت ، وردة غابت ثم رحلت ، وكأن موت بليغ كان إعلانًا بانتهاء عصر الطرب.
وصدق من قال: “خُلقت الموسيقى من أجل بليغ حمدي”، وصدق قلبي الذي عرف ألحانه قبل أن يعرف اسمه، على مصطبة الأستاذ عطية، حيث وُلد عشقي للفن، وولد داخلي صدى لا ينطفئ.
#حكاوي_علام